أزمة مراكز الرعاية النهارية مع طيف التوحد

0 8

سنابل الأمل / متابعات

عبدالرحمن المرزوقي

في زحمة الشعارات الإنسانية التي ترفعها بعض المؤسسات التعليمية، نجد واقعًا أكثر قسوة مما يُعرض في الصور الدعائية. الحديث هنا عن مدارس الرعاية النهارية المخصصة لذوي الإعاقة الذهنية، وطيف التوحد، ومتلازمة داون. مؤسسات يُفترض أن تكون حاضنةً للرحمة والعلم، لكنها في كثير من الأحيان تتحول إلى مسرح للتجاوزات والإهمال، نتيجة ضعف الرقابة وغياب الكوادر المتخصصة القادرة على التعامل مع هذه الفئات باحترافية ومعرفة علمية.

القضية تبدأ من هنا: كوادر ضعيفة، غير مدربة، يتم زجّها في الصفوف مع أطفال يحتاجون إلى أعلى مستويات الفهم والمرونة والصبر. التعامل القاسي لا يكون دائمًا عن عمد، بل غالبًا بسبب الجهل، بسبب غياب التدريب على الأساليب العلمية الحديثة في التربية الخاصة، وبسبب النظرة التقليدية التي ما زالت تساوي بين الإعاقة الذهنية بمختلف صورها. النتيجة أن الطفل لا يحصل على الرعاية التي يستحقها، بل يتعرض أحيانًا لما يشبه الإيذاء النفسي أو الإهمال المعرفي الذي يرسّخ فجواته بدلًا من معالجتها.

من أكثر الأخطاء شيوعًا في هذه المدارس هو وضع جميع الحالات في سلة واحدة: متلازمة داون، الإعاقة الذهنية، وطيف التوحد. بينما الواقع العلمي اليوم يوضح أن طيف التوحد لم يعد يُنظر إليه كمرض أو عجز إدراكي بحت، بل يُصنَّف ضمن ما يُسمى بالاختلافات العصبية (Neurodivergent)، أي اختلاف في طريقة عمل الدماغ، وليس بالضرورة قصورًا.

إن إصرار بعض المدارس على معاملة طفل التوحد وكأنه نسخة أخرى من طفل الإعاقة الذهنية يعكس فجوة معرفية هائلة. التوحدي قد يكون مبدعًا في الرياضيات أو في الفنون أو في الذاكرة البصرية، بينما طفل متلازمة داون يواجه تحديات مختلفة تمامًا في التعلم والإدراك. جمعهم في قالب واحد هو ظلم مزدوج، إذ يُهدر فرص النمو لدى الأول، ويزيد من معاناة الثاني.

الأبحاث الحديثة تؤكد أن حالات طيف التوحد التي تعاني صعوبات إدراكية حادة لم تصل إلى هذه المرحلة بسبب «التوحد» ذاته، بل بسبب غياب التدخل المبكر. الطفل الذي يتم تشخيصه بدقة في سنواته الأولى ويحصل على برامج تدخل سلوكي ولغوي وحسي منظمة، يستطيع أن يطور مهاراته الإدراكية بشكل لافت. لكن عندما يُترك بلا متابعة، بلا تدريب، وبلا بيئة تعليمية مهيأة، تتحول الاختلافات البسيطة إلى فجوات يصعب سدّها لاحقًا.

وهنا يظهر دور المدرسة: فهي ليست مجرد مكان للجلوس وحفظ الوقت، بل مختبر للمهارات. فإذا لم تُدار وفق برامج علمية دقيقة، تتحول إلى بيئة تعيد إنتاج العجز، وتضاعف معاناة الأسر.

المطلوب ليس فقط زيادة الرقابة، بل إعادة تعريف فلسفة هذه المدارس. يجب أن ننتقل من نموذج «التسكين» إلى نموذج «التطوير»، من مجرد رعاية إلى بناء قدرات. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا عبر: تأهيل الكوادر بشكل علمي، عبر برامج تدريب متخصصة ومعايير توظيف صارمة. تصنيف دقيق للحالات، بحيث يُعامل طفل التوحد كاختلاف عصبي وليس كإعاقة ذهنية. إلزامية التدخل المبكر لكل طفل يتم تشخيصه، مع متابعة دقيقة من جهات رسمية. رقابة حقيقية تضع مصلحة الطفل فوق أي اعتبار تجاري أو دعائي.

إن أطفالنا ليسوا أرقامًا في سجلات المدارس ولا شعارات في المناسبات العالمية، بل أرواح تستحق أن تُعامل بكرامة وبعلم. القسوة التي يتعرضون لها ليست دائمًا صفعة أو كلمة جارحة، بل قد تكون صمتًا باردًا أو جهلًا متواصلًا يطفئ بريقًا كان يمكن أن يضيء. مستقبل هذه الفئة مرهون بوعينا، برقابتنا، وبقدرتنا على أن نرى الاختلاف لا كعبء، بل كفرصة لفهم أعمق للإنسان..

 

الوطن

 

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق