بعد الخمسين : دروس لا تقال إلا بتجاعيد الزمن. 

0 9

سنابل الأمل / متابعات

 كتبته:د/مرام زاهد

منذ حداثة سني، كنت أجد متعة لا توصف في مجالسة الكبار، أولئك الذين يتفوقون عليّ في السن والمقام والعلم والمعرفة والخبرة. كنت أؤمن أن استيعاب تجاربهم كفيلة بأن تمنحني قفزات نوعية في مسار حياتي، وهي بمثابة جسر مختصر إلى الحكمة .

قبل أسابيع، جمعتني الصدفة بلقاء مع امرأة فاضلة، تحمل في قلبها وقار التجربة، وفي ملامحها هدوء السنين الطويلة. سألتها سؤالًا بسيطًا ظاهره، عميقًا في جوهره:

“بعد أكثر من خمسين عامًا في هذه الحياة، ما هي نصيحتك لنا؟”

كنت أتوقع أن تهمس لي بنصائح مألوفة: أكثري من الطاعة، واغتنمي الوقت في طلب العلم، واصبري على تقلبات الحياة… لكن إجابةً واحدة منها هزّتني، وبدّلت نظرتي لأشياء كثيرة.

قالت بثقة وهدوء:

“مرحلة ما بعد الخمسين ليست مرحلة سباق، بل هي محطة للتأمل والمراجعة، ستتأملين فيها ماذا قدمتي في هذه الحياة ؟! ومن أوائل تلك المراجعات أنك ستبدئين برؤية ثمار تربيتك في أولادك. ما الذي بقي فيهم من تربيتك؟

ستشاهدين كيف أن كلاً منهم قد استقل بطريقه، وربما سلكوا دروبًا لم تتخيليها يومًا، مختلفة عن تلك التي بذلتِ جهدك لرسمها.

لذلك نصيحتي: لا تُثقلي هذه المرحلة بالحزن والأسى ، ولا تُرهقي قلبك بمزيد من التوقعات والآمال المؤجلة، لا تطاردي النتائج، فهي ليست كلها بيدك. ما زرعتِه قد لا يظهر كما حلمتِ، لكنه لا يضيع، الاختلاف سُنة الحياة، وتحدياتها جزء لا يتجزأ من الرحلة، فإن كنتِ تنتظرين النتائج مقابل سعيك، فهذا ظن مجانب للصواب؛ لأن النتائج ليست دومًا في يدك، ولا تجري الأمور كلها على ما نشتهي.

ثم أسهبت بقولها:

تذكّري أن أنبياء الله – وهم صفوة خلقه – لم يسلَموا من خيبات الأمل مع أقرب الناس إليهم.

تأملي خطاب نوح عليه السلام وهو ينادي ابنه الغريق بلوعة الأبوة، وتأملي حوار إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقد بلغ به الرفق مبلغه، وانظري إلى محمد ﷺ كيف واجه صدود أقاربه رغم صفاء دعوته وطهارة رسالته.

فخيبة الأمل التي تصيبك عند تتبع الثمرة، قد عايشها الأنبياء قبلك، والصالحون من بعدهم كذلك، وهي ليست دليلاً على الفشل، بل أحيانًا على صدق السعي.

ثم روت لي قصة الإمام ابن الجوزي-رحمه الله-، وقالت: كان من أعظم الوُعَّاظ، بل يقال: أن الجدران لو سمعت موعظته لبكت!، وقد تاب على يديه أكثر من سبعين ألفًا.

وهو مع هذا المنهج التربوي الإيماني المؤثر في القلوب اُبْتُلي -رحمه الله- بولدٍ عاق يُدعى عليًّا. تألم من عقوقه حتى ألّف له كتابًا مؤثرًا بعنوان: [لفتة الكبد إلى نصيحة الولد]، يناشده فيه ويرقّق قلبه، ولكن الابن لم يتّعظ، بل كان سببًا في سجن أبيه، ثم باع مكتبته الضخمة بثمن بخس!

باع تراث أبيه كما يُباع الدين لمن لا يقدّر العلم ولا يعرف له قدرًا!

ثم تابعت حديثها لي قائلة: فابن الجوزي رحمه الله برغم برّه بوالديه، لم يسلم من الابتلاء في ولده!.وكما قال ابن القيم-رحمه الله-: (من الذنوب ما لا يكفّره إلا همّ الأولاد).

حين تخيب آمالك في أبنائك، قد يكون في هذا الألم دافع لقلب منكسر أن يلجأ إلى ربه متضرّعًا، يشكو بثّه وحزنه بين يديه، فيجد في هذا البلاء قربًا ومقامًا، يطرُق باب السماء بإلحاح، ويلحّ في الدعاء بصدقٍ واحتياج، فيرفعه الله بهذا الصدق والانكسار .

وعلى الجانب الآخر، حين يُصلح الله لك أبنائك، قد تُبتلى بنوعٍ آخر من الفتنة، فتغترّ وتظن أن الفضل كله عائد لتربيتك وسعيك، فتغيب عنك حقيقة المنّة الإلهية. فنِعمة الأبناء قد تُطغي أحيانًا، كما أطغت الوليد بن المغيرة، حين قال الله فيه: “وبنين شهودًا”.

ثم ختمت كلماتها بنبرة حانية:

“الدعاء هو سر التربية الصالحة. لا تظني أن كل خيرٍ تزرعينه اليوم ستقطفينه في حياتك، فبعض الزهر لا يُزهر إلا بعد أن يُغطى الجسد بالتراب، ادعي لأبنائك، وارفقي بقلبك، وثقي أن الله لا يضيع أثرًا خالصًا، وإن تأخّر.”

أطرقتُ طويلاً بعد حديثها، شعرت أنني كنت أنظر إلى الحياة بعدسة ضيقة، تقيس الإنجاز بالنتيجة، وتقيس النجاح بالطاعة من الأبناء، لا بالصبر من الأمهات.

خرجت من هذا اللقاء وكأنني عدت من رحلة، لا إلى البيت، بل إلى داخلي …. إلى تلك الزاوية من الرٌّوح التي تحتاج إلى تصالح مع القدر، وسكينة مع تقلبات الدنيا، وإيمان عميق بأن دورنا هو البذل، أما الثمر، فله ربٌّ كريم لا ينسى.

 

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق