ذوو الهمم.. من ظلم الحياة إلى ظلم البشر

0 3

سنابل الأمل / متابعات

محمد ياسين رحمه

“العقل السليم في الجسم السليم”.. شعارٌ شهير، كثيرا ما يُرفع في المؤسسات التربوية والتعليمية والرياضية، وهو ينطوي على معانٍ تربط بين التوازن العقلي والصحة الجسدية وممارسة الرياضة، لتأمين القدرة على الاستمتاع بالحياة. ولكن، كيف يفهم هذا الشعار، “ذوو الاحتياجات الخاصة” الذين حُرموا من نِعمة الحركة أو الحواس الخمس؟ وما الذي يشعرون به حينما يسمعون أو يرون هذا الشعار مرفوعا في بيئات مختلفة، يُفترض أن تحتويهم وتحترم وجودهم وعواطفهم، ولا تُشعِرهم بأنهم على هامش الحياة؟

 

لا ندري كيف تحوّلت عبارةٌ أطلقها الشاعر اليوناني “ميليتوس” (624 – 546 قبل الميلاد) إلى شعارٍ (رياضي) تداولته المجتمعات في كل أنحاء المعمورة؟ كل ما ندركه هو أن القرون التي رُفع فيها هذا الشعار تمثّل جزءًا من تاريخ الظلم الذي تحمّله “ذوو الاحتياجات الخاصة” عبر العصور. ونشير إلى أن عبارة “العقل السليم في الجسم السليم” تُنسب أيضًا إلى الشاعر الروماني “جوفينال” (عاش في أواخر القرن الأول وبدايات القرن الثاني الميلادي)، وله قصيدة هجائية وردت فيها هذه العبارة الظالمة!

 

قد يعتبر “ذوو الاحتياجات الخاصة” أن الحياة ظلمتهم، وهي دومًا ظالمة بمنطق البشر، ولكنها عادلة بمنطقها الخاص، لأنها شأنٌ إلهيٌّ لا دخل للإنسان فيه، فلا أحد يمتلك حق اختيار شكله ولونه وانتمائه وحالته الجسدية والمادية وغيرها من الأمور الأخرى!

 

ولعل الظلم الأكبر والأخطر، الذي تحمّله ويتحمّله “ذوو الاحتياجات الخاصة”، هو ظلم البشر (الأصحّاء جسديًّا وعقليًّا)، من خلال إغداق مشاعر الشفقة عليهم، سواء كانت شفقة صادقة أو مفتعلة، والتعامل معهم وكأنهم جنسٌ بشري مختلفٌ، أو هم استثناء بشري، ليس لهم حق المشاركة في صناعة الحياة أو التأثير فيها.. حتى في مجالات الأدب والثقافة، تم التعامل معهم باعتبارهم موضوعًا يكتب عنه “الأصحاء” أو يُنتجون حوله الأفلام والأعمال الفنيّة!

 

وإذا ما تصفّحنا كتاب التاريخ الإنساني، عبر مختلف العصور، سنجد عظماء في مختلف مجالات الحياة، أسهموا في الحضارة الإنسانية، وقدّموا إنجازات عُظمى في العلوم والأفكار.. ووصلوا حتى إلى رئاسة الدّول. ونتمنى أن يقوم كل بلدٍ في هذا العالم بإنجاز كاتب يجمع عظماءه من فئة “ذوي الاحتياجات الخاصة”، ثم يُؤسَّس مرصد عالمي من تلك الكتب يُمكن استثماره في تقديم نماذج إنسانية يقتدي بها “الأصحاء” وتكون مصدر فخر واعتزاز يحرّر “ذوي الاحتياجات الخاصة” من ظلم البشر والحياة على حدّ السواء.

 

في سياق هذه الأفكار، توجّهت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من الكُتّاب الأفاضل بهذه الرسالة: “ذوو الهمم” أو “ذوو الاحتياجات الخاصة” فئات اجتماعية لها الحق في المعرفة والأدب والاطلاع، بل لها الحق أن يتوجّه إليها أدبٌ خاص في موضوعاته وحتى مصطلحاته، من أجل تأهيلهم وإدماجهم في المجتمع، ومنحهم الثقة والشعور بوزنهم الإنساني في بيئاتهم المجتمعية والتعليمية والثقافية..

 

تتعدّد احتياجاتهم بحسب نوع “الإعاقة”، وقد انطلقت موجات من الكتب الناطقة أو الصوتية التي تستجيب لاحتياجات مَن فقدوا نعمة البصر أو الذين لا يستطيع تقليب صفحات الكتاب مثلا، غير أن الكتب الناطقة يختارها “الأصحّاء” ولا تخضع إلى رغبات القراءة لدى ذوي الاحتياجات الخاصة..

 

ومن المهم التساؤل حول مكانة ذوي الاحتياجات الخاصة في الأدب والثقافة؟ وهل أَولى الكُتّاب والأدباء عناية بهذه الفئة؟ وهل هناك ضرورة لتخصيص أدب أطفال خاص بهذه الفئة تركّز على موضوعات معيّنة وتستعمل قواميس تحترم مشاعرهم؟ وهل من المُجدي الكتابة إلى هذه الفئة المحرومة وليس الكتابة عنها فقط، وما مدى مسؤولية الكُتّاب والأدباء في ذلك؟

 

عزيزي القارئ، لم أحدّثك عن نماذج من عباقرة وعلماء وأدباء ينتمون إلى “ذوي الاحتياجات الخاصة”، وكانت لهم أدوار عُظمى في تغيير مجرى التاريخ والدّفع بعجلة الحضارة الإنسانية حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من تطوّر ورقي، فقد تركت إضاءة هذه الزوايا إلى مقالات الكُتّاب في هذا الملف. ولم أحدّثك عن “الإعاقة”، مهما كان نوعها، بأنها ابتلاءٌ من الله، ودليل على محبّته للمُبتلى، فأيّ نعمة وفوز أعظم من هذه النعمة والفوز؟ ودعني أهمسك في أذنك، عزيزي القارئ” بأن حياة الإنسان هي رحلةٌ للبحث عن معنى الحياة ذاتها، والمحظوظ مَن يُمهله القدر لحظات قبل الغرغرة ليُدرك ذلك المعنى.. ولعل الذين أدركوا المعنى قد تمنّوا لو أنهم كانوا من “ذوي الاحتياجات الخاصة”.

 

عزيزي القارئ، حاول ولو مرّةً واحدةً أن تتقمّص حالة من حالات ذوي الاحتياجات الخاصة، في الشعور ورؤية الحياة وأثر التعامل.. وبعدها حاول أن تعدّل مفردات قاموسك اليومي، فلا يجب أن يتضمّن كلمات قد تبدو لك عادية ولكنها مثل الرصاصة عندما تصل إلى “ذوي الاحتياجات الخاصة”.. وأدعوك، وأنت في حالة التقمّص، إلى تأمّل ذلك الشّعار: “العقل السليم في الجسم السليم

 

الايام

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق