سنابل الأمل .. متابعات
أجبر التطوّر السّريع للتكنولوجيا جميع الفئات على التحوّل الرقمي، ولأنّ قُدرات الانتقال إلى الرّقمنة تختلف من شخص إلى آخر، فإن فئتيْ ذوي الاحتياجات الخاصة والنساء العاملات، ولحاجتهما إلى خدمات تتناسب وظروفهما، حاولت كل منهما “تسخير” الرّقمنة كأداة مُساعِدة في تدبير شؤون الحياة، فكيف ساعد التطور المُتسارع لتكنولوجيا المعلومات والاتصال، في تعزيز دور هاتين الفئتين بالمجتمع، والدّفع بهما في مسار التنمية الاجتماعية والاقتصادية؟
يشهد العالم ذروة الاضطراب التكنولوجي، والمُتوقّع لها أن تستمرّ وتتطوّر أكثر خلال العقود المقبلة، ووجدت المجتمعات نفسها وجها لوجه مع تقنيات مُتطوّرة جدا. ولأنّنا جزء من هذا العالم الذي تحوّل إلى قرية صغيرة، فالرقمنة حققت للفرد الجزائري والأسرة والمحيط، رفاها ملحوظا.
وذوو الاحتياجات الخاصة والمرأة، جزء مهم من نسيج المجتمع الجزائري، باعتبارهما عُنصرين منتجين وفعّالين، في حال أُحسن استغلال إمكانيّاتهما. إذ تُحصي الجزائر حوالي 7 ملايين شخصا من ذوي الاحتياجات الخاصة، أي بنسبة 15 بالمائة من تعداد السكان، بينما يُحصي سوق الشغل 1.97 مليون امرأة جزائرية.
الإعاقة” حبسته في قوقعة والرّقمية انتشلته
أثبتت الوسائل التكنولوجية الحديثة دورها الفعّال في التغلب على صعوبات الحياة لدى فئة ذوي الاحتياجات الخاصة، المحتاجين كغيرهم إلى خدمات، لكنهم يواجهون صعوبات تفرضها طبيعة إعاقتهم، ما حتّم عليهم توظيف الرّقمنة في حياتهم كأداة مُساعَدة.
“نبيل” من الجزائر العاصمة، بالغ من العمر 37 سنة، مُقعد على كرسي مُتحرك منذ قرابة 10 سنوات، بسبب حادث مرور، ومن يومها فقد الشّاب وظيفته في شركة خاصّة، وبقي بطّالا لسنوات عديدة.
وخلال جائحة كورونا، اهتدى الشّاب إلى فكرة تقديم دروس دعم رقميّة للطّلاب المقبلين على البكالوريا انطلاقا من منزله بسبب “الحجر المنزلي”، الذي منع التلاميذ من تلقي دروس الدّعم خارجا.
أنشأ “نبيل” قناة على منصة “يوتيوب”، وانطلاقا من هاتفه الذكي البسيط أصبح يقدم شروحات مبسطة لطلاب البكالوريا، ما أكسبه آلاف المتابعين في زمن قصير، ثم خاض مجال تقديم نصائح لذوي الاحتياجات الخاصة لتعزيز ثقتهم بأنفسهم.
ونتيجة سنة كاملة من المثابرة في هذا العمل، اشترى هذا الشاب كرسيا مُتحرّكا عصريا، ودخل الحياة الزوجية بعد سنوات من اليأس والإحباط، وحتّى زوجته اختارها من موقع إلكتروني للتّعارف والزّواج.
“الرقمية غيّرت حياتي إلى الأفضل”
وكشف نبيل لـ “الشّروق”، أنه لم يتقبّل إعاقته أبدا، خاصّة بعد تسريحه من وظيفته، وكانت منحة المُعاق مصدر عيشه الوحيد.
ومع مواظبته على استعمال التكنولوجيات الرقمية، اكتسب “نبيل” مهارات جديدة، مثل فنّ التخاطب وسبل إقناع الغير، وقال: “أشعر بالامتنان للتحوّل الرقمي، الذي بفضله عُدتُ الى الحياة من جديد”.
لكن رئيسة جمعية “قلب الجزائر” لذوي الإعاقة، فوزية حشايشي، ترى أنه لا يجب غضُّ الطرف عن وجود آخرين لا تسمح لهم اعاقتهم الجسدية ولا حتى إمكانياتهم المادّية، بالاستعانة بالتكنولوجيات الحديثة في حياتهم.
وقالت لـ “الشروق” إنّ كثيرا من المُعاقين لا يمكنهم تسديد فواتيرهم عبر التطبيقات الإلكترونية، لأنهم لا يملكون أصلا هواتف ذكية، بل بعضهم لم يظفر بفرصة للدراسة لعدم توفّر الظروف المناسبة، وبالتالي هو يجهل كيفيّة التعامل مع التكنولوجيات الحديثة.
“ذوو الهمم” مورد هامّ علينا تمكينهم رقميا
وبحسب حشايشي، يحتاج الدّفع الرقمي حسابا بريديا أو بنكيا به أموال كافية، أمّا صاحب الإعاقة فهو شخص يعيش بمنحة شهرية لا تتعدى مليون سنتيم، متسائلة: “من أين له المال الكافي لاستعمال الرقمنة؟”
واعتبرت أن الأشخاص ذوي الإعاقة يتعرّضون في الغالب للإقصاء والتهميش، وعدم التمتع بنفس الفرص المهنية والتعليمية المتاحة للبقية، بسبب صعوبة التعلم لديهم أو نتيجة عوامل استبعاد ناشئة من الحرمان الاجتماعي.
والحل، بحسبها، يكمن في تيسير السلطات الأمر على ذوي الاحتياجات الخاصة، من خلال تسهيل استفادتهم من التقنيات الرقمية الحديثة، ورصد احتياجاتهم إليها، فضلا عن تدريب الکوادر البشريّة التي تُكوّن “المُعاق” في استعمال الرقمية.
وقالت محدثتنا: “لابد من إزالة المعوقات حتى تستفيد فئة ذوي الاحتياجات الخاصة من التطور الرقمي، بما يخفف من حدّة إعاقاتهم ويسهل اندماجهم في مجتمعهم، التي كانت تحول دون مشاركتهم الفعّالة في سوق العمل باعتبارهم مورداً من الموارد البشرية، وعنصرا منتجا وفعالا في تنمية البلاد”.
أيّوب.. عصاميُّ “رقمنة” وبارع فيها
ما قالته حشايشي صحيح في كثير من جوانبه، لكنّه مردود عليها من جهة أخرى، لأن الإرادة والعزيمة تحققان المعجزات، وهو ما نرصده في عينتنا الثانية، ويتعلق الأمر بالشاب أيّوب شلاّلي من ولاية مسيلة.
هو صاحب إعاقة حركيّة، ومدير ومؤسس جريدة الكترونية مختصة في رفع صوت ذوي الاحتياجات الخاصة بالجزائر، ومدير هيئة إعلام المنظمة الوطنية للمُعاقين حركيا، وهو مُطوّر برامج انترنت ومختص في تقنيات الكتابة الحديثة و”السوشل ميديا”.
أيوب، وبحسب روايته لـ “الشروق”، لم يستسلم لإعاقته، ورفض العيش بمنحة الإعاقة فقط، وقرّر تطوير نفسه بنفسه. وعن هذا قال: “أنا عصاميّ، كوّنتُ نفسي بنفسي، بعدما بحثتُ عن شغفي وطوّرته، وقررتُ خوض مجال التكنولوجيات الحديثة، لأنها باتت أهم مورد في الحياة المُعاصرة”.
مُحدثنا تعلم تقنيات الكمبيوتر وإصلاح البرامج والحسابات الإلكترونية بمفرده، واعتمادا على فيديوهات منصة “يوتيوب”، ثم تعلم تقنيات الكتابة الحديثة وأصبح كاتب سيناريوهات. وعمل مدونا رقميا عن بُعد لشركات عالمية وعربية.
والتكنولوجيا، بحسب محدثنا، هي “سلاح ذو حدّين”، الشّاطر من يستغلها في الجانب المفيد، وتعليم نفسه وغيره.
الإعاقة في الأذهان وليس الأجسام
وما يحزّ في نفس “أيوب” هو تأسيسه لجريدة إلكترونية تحت عنوان “صوت المُعاق”، هدفها إدماج ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع وإسماع صوتهم، لكنه لم يجد منخرطين في جريدته من هذه الفئة..!
وقال مُتحسّرا: “بعض ذوي الاحتياجات الخاصة وللأسف يفضلون العزلة بين أربعة جدران، لا يملكون إرادة التّغيير مُتحجّجين بغياب الإمكانات.. وها أنا بدأتُ من الصفر وانطلاقا من منحة الإعاقة فقط، وتحديتُ نفسي والمحيط، ومازلت أتعلم”.
وينصح محدثنا، أصحاب الهمم بتحدّي إعاقتهم مهما كان نوعها، “لأن الإعاقة في الذهنيات وليست في الأجسام”، وعليهم إثبات عُلوّ كعبهم، وإطلاق العنان لطاقاتهم الدفينة، وليس أفضل من مجال الرقمية المتاحة حاليا للجميع.
التكنولوجيات باتت اضطرارا وليست اختيارا
“الغوص” في عالم التكنولوجيات الحديثة هو “اضطرار وليس اختيارا”، هذا ما دعا إليه المختص في الرقمنة، عمر سلمان، مُناشدا ذوي الاحتياجات الخاصة ضرورة ولوج هذا العالم، الذي بات يوفر لهم خدمات غاية في التطور، تمكنهم من عيش حياتهم بسلاسة كبيرة.
وقال سلمان لـ “الشروق” بأنّ صناعة الكفاءات الفردية مهنيا وإنسانيا، ولأجل مجتمع متحضر، تجبرنا على الالتفات إلى فئة ذوي الإعاقة لتحقيق تنمية بشرية.
وعدّد محدثنا أهم الابتكارات الرقمية الموجهة للأشخاص المصابين بإعاقات مختلفة، منها لوحة مفاتيح وشاشة بطريقة “برايل” موجهة للمكفوفين وضعاف البصر، مساعد الصوت والذي يتيح لهم التّواصل صوتيا مع مختلف المنصّات الإلكترونية، سماعات طبية حديثة لأصحاب الصّمم مربوطة بهواتفهم الذكية والتواصل المرئي مع الغير.
وبحسب محدثنا، هناك تقنية التعليق التحريري الفوري، وهي عبارة عن ترجمة حرفية سريعة للصوت في البرامج والأفلام، مما يتيح للشخص الاستمتاع ببرنامج أو فيلم، وهي موجهة للأشخاص الذين يعانون من صعوبات في السّمع، وهناك أيضا وعدة تطبيقات تشتغل بالصوت دون اللمسة، ونظارات ذكية، وتم اختراع ألعاب إلكترونية مُوجّهة لأصحاب الهمم.
الرقمنة ساعدت المرأة العاملة على الاستقرار الأسري
ومن جهة أخرى، باتت فئة النساء العاملات، تبحث عن خدمات توفر رفاهيّة أكثر، في ظلّ “هجرهن” المنازل لساعات طوال يوميا، وبسبب تطور الأسرة النووية.
وفتحت الرقمنة آفاقا واسعة أمام المرأة الموظفة لفرض ذاتها ككفاءة وفاعلية، وبات الرهان على الرقمنة لتطوير مهاراتها واستثمار قدراتها، إذ تشير أغلب الدراسات السوسيولوجية إلى أنّ الاقتصاد الرقمي سيجعل المرأة تتجاوز كل الإكراهات التي تعانيها في سوق العمل التقليدي، وتحقق انسجاما بين حياتها العملية والأسرية، ما سيدحض النظرية القائلة، أن نجاح المرأة المهني سيكون على أنقاض الأمومة والاستقرار الأسري.
هناء مرّاد في 38 من عمرها، تملك شهادة مهندس دولة في الزراعة، كانت الصعوبة التي وجدتها في تأمين بعض الخدمات لأسرتها، حافزا لها للتفكر في الاستفادة من التطور الرقمي لإنشاء مؤسسة مصغرة مختصة في تقديم الخدمات المنزلية ومساعدة الأشخاص في بيوتهم.
تقول مُحدثتنا، بأن فكرة إنشاء مؤسّستها، نبعت أساسا من حاجتها هي كامرأة عاملة تقضي كامل اليوم خارج المنزل، لمساعدة طرف ثان في المهام المنزلية “الصعبة”، كما رصدت وجود عدّة اعلانات لنساء عاملات عبر “فيسبوك”، يعانين من المشكلة نفسها.
75 بالمائة من زبائنها نساء عاملات
وبحسبها، من هنا جاءتها فكرة استحداث نشاط خدماتي لمساعدة النساء العاملات في المهام المنزلية الصعبة. والمشروع عبارة عن تقديم خدمة تنظيف المنزل كاملا. وقالت إن: “75 بالمائة من زبائني نساء عاملات، والبقية يعانين من أمراض مزمنة جسدية ونفسية، لا يستطعن القيام بأشغالهن المنزلية”. وتتواصل محدثتنا مع زبائنها عن طريق صفحتها الإلكترونية
المصدر .. الشروق