عالم التوحد والعزلة .. رحلة فلسفية وإنسانية مع “الطفل الذي كان يقيسُ العالم”

سنابل الأمل/ متابعات

كتب عبد الفتاح لحجمري

Metin Arditi كاتب سويسري من أصل تركي، غادر تركيا وهو في السابعة من عمره، وحصل على الجنسية السويسرية عام 1968. قضى إحدى عشرة سنة في مؤسسة داخلية، تابع بعدها دراسته في المدرسة الفيدرالية التقنية بلوزان، حيث نال شهادة في الفيزياء وشهادة دراسات عليا في الهندسة النووية؛ شغل من عام 2000 إلى 2013 منصب رئيس أوركسترا سويسرا الروماندية؛ يعدّ Metin Arditi عضوا بارزا في المجلس الاستراتيجي للمدرسة الفيدرالية التقنية بلوزان، وعالما محنكا في الفيزياء، كتب بالموازاة مع انشغالاته العلمية الدقيقة العديد من المسرحيات والروايات، منها رواية “الطفلُ الذي كان يقيسُ العالم”.

غمرتني هذه الرواية بمتعة أدبية استثنائية؛

إنها تأمل عميق حول قساوة الفقدان، ورواسب الذاكرة، والسعي وراء فهم معنى الحياة.

تدور أحداث الرواية في قرية صغيرة باليونان، على جزيرة كالاماكي، في خضم أزمتها الاقتصادية. يتتبع السارد مسار شخصيتين رئيسيتين: إليوت، مهندس معماري أمريكي يعود إلى الجزيرة بعد وفاة ابنته، ويانيس، طفل مصاب بالتوحد يعيش مع والدته ماراكي. يعاني الطفل يانيس من هوس بالأرقام والقياسات، محاولًا فهم العالم من خلال الحسابات الرياضية، باحثًا عن منطق مطمئن لعالم يجهله ويحاول فهمه. وفي نفس الوقت، يعيش إليوت تحت وطأة فَقْد ابنته، محاولًا إعطاء معنى لحياته المنكسرة من خلال اهتمامه بالطفل إليوت ووالدته.

من هذا المنظور، تُبرز الرواية بُعدًا إنسانيًا دقيقًا تجسده علاقة نيكولا بوالدته، التي تبذل كل جهدها لمساعدته على التأقلم مع العالم من حوله. تحمل الأم في قلبها مشاعر عميقة تجاه ابنها، لكنها تواجه عجزًا في التواصل معه بالأساليب التقليدية. تعيش يوميًا معاناةً تجمع بين الحب والقلق، ساعية جاهدة إلى بناء جسرٍ يصل بينها وبينه، رغم أن عالمه يبدو مغلقًا ومنطويًا على ذاته. هكذا، تعكس هذه العلاقة صراعًا بين الحاجة إلى الفهم والرغبة في التواصل الإنساني، بينما يجد الطفل في عزلته العلمية ملاذًا أكثر راحة واستقرارًا.

عالمٌ روائي مشبعٌ بأحاسيس العزلة والفقد والحداد والصراع مع النفس.

لذلك، لا يظهر الطفل يانيس في الرواية، بتوحّده، مجرد صبيّ يلعبُ بالأرقام سعيًا وراء طمأنينة مفقودة؛ بل يصبح توحّده استعارةً لسعي الإنسان نحو فهم عالمٍ مضطربٍ من خلال العقل. إنَّ توحُّد يانيس وهوسه بالمعادلات الرياضية يعكسان رغبته العميقة في إرساء نظامٍ لعالمٍ بات يعجّ بالفوضى، وهو ما يتناقض مع مشاعر إليوت المضطربة؛ أبٌ عاجز عن إيجاد منطقٍ أو تفسيرٍ لوفاة ابنته. من هنا، وجد المهندس المعماري نفسه وسط عالم داخلي متهاوٍ، بلا دعائم أو ركائز. في هذا السياق، تبرز أهمية الرمزية المعمارية بوضوح: قدرته وبراعته على تصوّر صروح متينة وصلبة تتعارض مع عجزه عن ترميم حياته الخاصة بعد فاجعة موت ابنته.

رواية “الطفل الذي كان يقيسُ العالم” تأمل فلسفي دقيق في معنى الحياة والموت والعلاقات الإنسانية، تتناول الرواية هذه القضايا من منظورين متناقضين: الحساب والمنطق من جهة، والعاطفة والإحساس من جهة أخرى. لهذا، تتجاوز الرواية إطار الحبكة السردية لتلامس أبعادًا فكرية عميقة، تطرح من خلالها تساؤلات جوهرية حول الإنسان، والمعرفة، والوجود.

تمثل شخصية الطفل يانيس في الرواية تجسيدًا لثنائية العقل والنظام، باستعماله الأرقام أداة لفهم العالم من حوله. يعكس هذا الهوس بالرياضيات حاجة الإنسان إلى خلق نظام خاص وسط الفوضى المحيطة به. هكذا، يُظهر يانيس كيف يلجأ الإنسان إلى منطق الرياضيات حين يعجز عن مواجهة العواطف والواقع المعقد، مما يُبرز التوتر بين العقل والمشاعر في سعيه نحو الاقتراب من فهم العالم وتمثله. في مقابل ذلك، يعيش إليوت حالة من الفوضى العاطفية العميقة بعد فقدان ابنته كما أسلفت، وتمثل رمزًا لضعف الإنسان أمام مشاعر الحزن والحب. تتجلى العلاقة الجدلية بين العقل والعاطفة في سعي العقل للسيطرة على الفوضى، بينما تظل العاطفة إحساسًا غير قابل للتوقع أو الضبط.

تدور أحداث الرواية في جزيرة يونانية تحفّها أزمة اقتصادية.

والجزيرة بدورها استعارة دالة عن العزلة.

إنها ذات العزلة العقلية والعاطفية التي يعيشها كل من يانيس الطفل المتوحد وإليوت المهندس المعماري. بهذا، تعكس عزلة كل من يانيس الطفل المتوحد وإليوت المهندس المعماري التوتر القائم بين العقل والعاطفة في الرواية. يانيس، الذي يجد في الأرقام والرياضيات ملاذًا، يسعى إلى خلق نظام منطقي لعالمه، محاولًا التغلب على الفوضى التي لا يستطيع التعامل معها عاطفيًا. تمثل هذه العزلة العقلية – من غير شك- رغبة الفرد في السيطرة على الواقع من خلال العقل. من هنا، تظهر الرواية كيف تغدو أرقام يانيس ومعادلاته وسيلة لفهم العالم، كأن الرياضيات هي الأفق التي يحتمي بها من مشاعر العجز والارتباك. وفي مقابل ذلك، يعيش إليوت في عزلة عاطفية مريرة بعد فقدان ابنته، غير قادر على إعادة بناء حياته رغم كونه مهندسا ومشرفا على بناء الهياكل المادية.

من هذا المنظور، تعكس العزلة حالة وجودية يشعر فيها الفرد بالعجز في التواصل مع الآخرين. إليوت، الذي يغمره الحداد، يجد في يانيس مرآة لعزلته الخاصة، إذ يمثل الطفل أفقا محايدا، بعيدا عن العواطف السلبية وما تثيره في نفسه من قلق وتوتّر.

تبلغ الرواية ذروتها عندما يفقد يانيس جدته، وهو حدث يُحدث اضطرابًا في عالمه المنظم؛ يشعر الطفل للمرة الأولى بوجود شيء يتجاوز قياساته الرياضية: إنه الموت؛ لحظة فارقة يكتشف من خلالها هشاشة محاولاته لفهم الحياة كما كان يتصورها. لذلك شكلت هذه التجربة نقطة تحول في وعيه، لأنه أصبح يدرك أن هناك أمورًا لا يمكن للعقل أو العلم تفسيرها أو قياسها.

3

علاقة يانيس بإليوت محورية في هذه الرواية؛ كيف ذلك؟

يعاني إليوت كما بينت سابقا من فوضى عاطفية غيرت حاله ويقينه، ووجد في لقائه بيانيس تطلعا غير متوقع للاقتراب من عالم مشبع بالمثالية والبراءة. في مشهد مؤثر، يراقب إليوت يانيس منهمكًا في حساباته، فيشعر بنوع من الانجذاب إلى هذا العالم المنظم حين يبدو له محصنًا ضد كل ألَمٍ وفَقْد. لكنه سرعان ما يدرك أنه عالمٌ لا يمكنه أن يفكّ المشاعر التي تسيطر على كيانه.

من هنا أسئلة الرواية:

هل يستطيع منطق الأحداث وحده منحنا فهمًا حقيقيًا للعالم، أم أن المشاعر والعواطف تلعب دورًا محوريًا في تشكيل تجربتنا الإنسانية؟

هل يُعد الانكفاء على النظام العقلي محاولة للهروب من الألم العاطفي، أم أن للفوضى العاطفية منطق لا يمكن التحكم فيه؟

هل يمكن للإنسان أن يجد توازنًا بين نظام العقل وفوضى العواطف، أم أن الصراع بينهما أمر لا مفر منه؟

كيف يمكن للتجارب الإنسانية الأكثر ألمًا، مثل الحداد والفقدان، أن تكشف حدود قدرة العقل على تفسير المشاعر وفهمها؟

هل التواصل الإنساني يتطلب توافقًا بين العقل والعاطفة، أم أن هناك عوائق لا يمكن تجاوزها بين هذين العالمين؟

هل يعكس الصراع بين العقل والعاطفة الطبيعة المزدوجة للوجود الإنساني، أم أن أحدهما يجب أن يسود على الآخر لتحقيق كل توازن نفسي؟

بين النظام والفوضى، وبين العقل والعاطفة، تتشكل توترات الحياة وتنعكس في علاقاتنا مع ذواتنا ومع الآخرين. بهذا المعنى، تدفعنا رواية “الطفل الذي كان يقيسُ العالم” للتفكير في حدود كلٍّ من العقل والعاطفة أمام تعقيدات الوجود؛ فهي تطرح تساؤلات فلسفية حول ما إذا كانت محاولاتنا لفهم العالم، سواء بالعقل أو بالعاطفة، كافية، أم أن الواقع أعمق وأعقد من أن يُحاط به أو يُفسَّر ضمن حدود إدراك الإنسان…

لنتأمل؛

وإلى حديث آخر

المصدر هسبربس

Comments (0)
Add Comment