سنابل الأمل / متابعات
عاد الجدل العلمي والسياسي في الولايات المتحدة ليطفو على السطح بشأن العلاقة المحتملة بين استخدام دواء “تايلينول” خلال الحمل، وظهور اضطرابات في النمو العصبي لدى الأطفال، مثل التوحد واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط (A.D.H.D). ورغم مرور أكثر من عقد على طرح هذا السؤال، لم تُسفر الدراسات حتى اليوم عن دليل قاطع يُثبت وجود علاقة سببية مباشرة بين تناول العقار أثناء الحمل وتلك الاضطرابات.
وأشارت صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن الجدل الأخير أُشعل بفعل مراجعة علمية جديدة أعدها باحثون من جامعتي هارفارد وماونت سيناي، تناولت 46 دراسة سابقة، بينها ثماني دراسات ركزت تحديدًا على التوحد. وقد خلصت المراجعة إلى وجود دليل على ارتباط بين استخدام “أسيتامينوفين” أثناء الحمل وبعض الاضطرابات العصبية لدى الأطفال. غير أن معدّي الدراسة أنفسهم شددوا على أن نتائجهم لا تثبت وجود علاقة سببية، وهي النقطة التي تؤكدها أغلبية الأوساط العلمية المعنية بهذا الملف المعقد.
ووفقاً لأطباء مختصين، فإن التوصيات الطبية الحالية بشأن استخدام “تايلينول” أثناء الحمل لا تستدعي التغيير، إذ يبقى المبدأ المعتمد هو “الاستعمال بجرعة منخفضة، وفي فترات متباعدة، وعند الحاجة فقط”، وهو ما ينسجم مع المعايير العامة لمعظم الأدوية المستعملة خلال فترة الحمل.
وبسبب القيود الأخلاقية التي تمنع إجراء تجارب سريرية عشوائية على النساء الحوامل، تعتمد الدراسات المتوفرة حتى الآن على بيانات رصدية، الأمر الذي يصعّب الوصول إلى نتائج حاسمة. وقد أكدت لجنة المراجعة أن النساء اللواتي تناولن “أسيتامينوفين” خلال الحمل قد يكنّ يختلفن من حيث الحالة الصحية الأساسية عن اللواتي لم يتناولنه، وهو ما يصعّب عزل التأثير الفعلي للعقار نفسه.
إلا أن الجدل لم يقتصر على الدوائر العلمية. فقد أثار التقرير اهتمامًا خاصًا بسبب تزامنه مع تصريحات لوزير الصحة الأمريكي، روبرت إف. كينيدي الابن، الذي ألمح إلى نيته إعلان نتائج جديدة هذا الشهر بشأن “عوامل تدخل في التسبب بالتوحد”. ويُعرف كينيدي بتبنيه نظريات مثيرة للجدل بشأن اللقاحات والعوامل البيئية، وقد ألمحت تقارير صحافية إلى احتمال إدراجه استخدام “تايلينول” ضمن هذه العوامل.
وقد استغلت شخصيات معروفة بميولها اليمينية، مثل الناشطة لورا لومر، المراجعة الجديدة لإطلاق حملات على وسائل التواصل الاجتماعي تُحذر من الدواء، وتدعو للتحقيق في مدى مسؤوليته عن ارتفاع نسب تشخيص التوحد في الولايات المتحدة. كما أعادت منظمة “دفاع صحة الأطفال”، التي أسسها كينيدي، إثارة الشكوك حول علاقة العقار بمشكلات النمو العصبي.
لكن المؤسسات الصحية الكبرى، مثل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) والوكالة الأوروبية للأدوية، أكدت في بيانات رسمية أنه لا توجد أدلة كافية تسمح بالربط الحاسم بين العقار واضطرابات النمو العصبي.
وفي السياق ذاته، أصدرت محكمة اتحادية أمريكية في ديسمبر 2023 حكمًا ضد المدّعين في دعوى جماعية استهدفت شركات مصنّعة لعقار الأسيتامينوفين، معتبرة أن الادعاءات تفتقر إلى السند العلمي. وقد شارك أحد معدّي المراجعة الجديدة كشاهد خبير لصالح المدعين، ما زاد من حساسية النقاش الدائر.
ويُعد “تايلينول” من أكثر الأدوية شيوعًا بين النساء الحوامل، وهو ما يفسر القلق العلمي المستمر إزاء تأثيره المحتمل. لكن إحدى الدراسات الرصدية الكبرى التي أجريت في السويد وشملت بيانات نحو 2.5 مليون طفل، أظهرت أن أي ارتباط محتمل بين استخدام الدواء والإصابة بالتوحد أو اضطرابات أخرى، يختفي عند مقارنة الأشقاء الذين تعرّضوا للعقار أثناء الحمل بآخرين لم يتعرّضوا له، ما يشير إلى أن العوامل الوراثية أو الصحية المسبقة قد تكون السبب الأرجح.
ودراسة أخرى من النرويج توصّلت إلى أن الاستخدام قصير الأمد للعقار (من يوم إلى سبعة أيام) ارتبط بانخفاض في خطر الإصابة بـ A.D.H.D، مقارنة بعدم استخدامه إطلاقًا، فيما تضاعف الخطر لدى النساء اللواتي استخدمنه لأكثر من 28 يومًا خلال الحمل.
ويرى خبراء أن ما تحتاجه الأبحاث القادمة ليس فقط تحسّنًا في المعايير المنهجية، بل أيضًا إدماجًا لبيانات دقيقة حول العوامل الوراثية، والجرعات، وتكرار الاستخدام، إضافة إلى دراسة استخدام الدواء في مرحلة الطفولة المبكرة.
وفي تصريحها، شددت أليشا هالادي، كبيرة العلماء في مؤسسة أبحاث التوحد، على أن اختزال مسألة معقدة مثل التوحد في عامل واحد مثل الأسيتامينوفين “أمر مضلل ومجافٍ للعلم”. وأضافت: “التوحد ناتج عن مزيج معقد من العوامل الوراثية والبيئية، ولا يمكن عزله أو اختصاره في متغيّر واحد”.