سنابل الأمل / متابعات
تمثل رياضة الباركور نموذجاً حديثاً يجمع بين اللياقة البدنية والتنمية الإدراكية والسلوكية، لتبرز اليوم كأداة تدريبية واعدة في دعم الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد. ومن خلال مبادرات ميدانية يقودها خبراء ومدربون مختصون، بدأ الاهتمام يتزايد بقدرتها على تحسين المهارات الحركية وتعزيز التركيز والانتباه وبناء الثقة بالنفس، في وقت يرى فيه الأطباء والمحللون السلوكيون أن هذه الرياضة قد تفتح آفاقاً جديدة للتفاعل الآمن والمثمر مع الأطفال، شريطة تكييفها وفق احتياجاتهم الفردية.
وقال الكابتن سامر حجازي مؤسس نادي “بين بوينت للياقة البدنية”: “اكتشفت أهمية رياضة “الباركور” في تحسين حياة الأطفال بشكل عام انطلاقاً من إيماني العميق بالتأثير الإيجابي للرياضة على القدرات الفكرية والسلوكية، إلى جانب الفوائد البدنية المعروفة. دفَعني هذا الاعتقاد إلى استكشاف رياضة ذات قدر عالٍ من التفاصيل والمهارات كتخطي الحواجز. وأنا على يقين تام بأن أطفال التوحد يمتلكون المقدرة على التعلم والإنجاز، وهم فقط بحاجة إلى الصبر والتكرار والإصرار من قبل المدرب، مع إيمان كامل بمقدرتهم. لذلك قررت إدخال هذه الرياضة في برامجي التدريبية كوسيلة قوية لتحسين حياتهم على جميع الأصعدة، فهناك إجحاف عام بشأن أطفال التوحد، ووضعهم في إطار محدد، لكننا نتعامل معهم في التدريبات على أنهم لا يختلفون أبدا عن باقي الأطفال، مع مراعاتنا بالتأكيد لاختلافهم في التجاوب والتواصل.
أما التحدي الأكبر الذي نواجهه أثناء التدريب فهو تحقيق لغة تواصل فعّالة مع الطفل. للتغلب على صعوبة فهم التعليمات المركبة لدى الكثير منهم، فيتوجب علينا تقسيم المهارة إلى عدد من الخطوات البسيطة، والبدء في تنفيذها خطوة بخطوة مع التكرار والإتقان الثابت لكل مرحلة. كذلك، يجب استخدام كلمات مباشرة وبسيطة، وتكرارها بشكل مستمر لتوجيه الطفل بفعالية.
ويضيف حجازي التعامل مع طفل التوحد يتطلب انتباهاً للكثير من التفاصيل في حركة الجسد، وبالتالي فإن تعلم التفاعل مع أي حركة يخلق تواصلاً لفظياً وجسدياً مستمراً بين الطفل والمدرب. وعندما يتعلم الطفل مهارات حركية جديدة وناجحة، فإنه يدرك قيمة التواصل واتباع التعليمات، حيث يصبح نجاحه تعزيزاً مباشراً لقدرته على الفهم والتواصل. لذا نحن نختار عددا من المدربين وليس جيمعهم لتدريبهم بشكل خاص على كيفية التعامل مع أطفال التوحد أثناء التدريب. ليكونوا قادرين على تفهم اختلافات الأطفال في ردات الفعل والاستجابة للأوامر.
ويلخص حجازي الفوائد التي يحققها أطفال التوحد من ممارسة الباركور من وجهة نظره إلى ثلاثة تصنيفات رئيسية.
الفوائد الجسدية (الحركية):
حيث تحسن الرياضة من التوازن والتوافق العضلي والدقة في الحركة والسرعة والقوة العضلية، مما يساعد في تنمية المهارات الحركية الكبرى والدقيقة التي غالباً ما يعاني أطفال التوحد من ضعف فيها.
الفوائد الفكرية:
تساعد هذه الرياضة في تحسين التركيز والانتباه، حيث يحتاج الطفل إلى تركيز قوي لتنفيذ الحركات المهارية، مما يطيل مدة الانتباه. كما تحفز هذه الرياضة التفكير النقدي لدى الطفل من خلال استيعاب تسلسل الحركات وترابطها ونتائجها المختلفة.
الفوائد السلوكية:
حيث تساعد الرياضة في الانضباط السلوكي والتحكم في المشاعر؛ فالتكرار والإصرار المرتبط بتعلم كل مهارة يعود الطفل على المثابرة وعدم الاستسلام، كما أن تحمل الضغط النفسي العصبي المرتبط بتعلم حركات صعبة يدربه على السيطرة على مشاعره وتحسين سلوكه اليومي.
ويؤكد حجازي: لتكييف الباركور مع احتياجات هؤلاء الأطفال، يجب أن نأخذ في الاعتبار أنهم يختلفون عن بعضهم البعض في تفاعلهم مع المدخلات الحسية. فيعاني الكثير منهم من اضطرابات حسية تجعل أي مدخل حسي، كالقفز أو الدحرجة، تجربة قد تكون غير محتملة أو ممتعة بشكل مفرط. بالتالي، من الضروري أن يتحكم المدرب في قدر ونوع وشدة التدريب ليتماشى التدريب مع الاحتياجات والأهداف الخاصة لكل طفل.
الرياضة بشكل عام، والباركور بشكل خاص، تلعب دوراً محورياً في بناء ثقة الطفل بنفسه وتحفيز نموه العقلي والعاطفي. عندما يتخطى الطفل حاجزاً أو يؤدي حركة صعبة، يشعر بإحساس ملموس بالإنجاز يعزز ثقته بذاته. كذلك التدرج في التعليم والانتقال المتسلسل من حركة إلى أخرى يحفز عقلية التطور والنمو، ويعلم الطفل أن المثابرة والجد تؤديان إلى التطور والنجاح.
ويختتم حجازي قوله: إن رياضة الباركور مناسبة بالطبع للأطفال ذوي الاضطرابات العصبية الأخرى مثل فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD)، حيث تساعد في التعامل مع العنصرين معاً. فهي تتطلب بذل جهد كبير في الأداء، مما يساعد في إفراغ طاقة الطفل وتقليل فرط الحركة، وفي الوقت نفسه تحتاج إلى انتباه مستمر وتركيز قوي عند أداء الحركات المعقدة وتخطي الحواجز، مما يساهم في إطالة مدة الانتباه وتحسين التركيز لديهم.
رأي الطب
أكد الدكتور أحمد حمود، استشاري أمراض عصبية عند الأطفال في “عيادة أمان للعافية”، أن التوحد يتمحور حول ثلاثة عوامل رئيسية هي: التواصل، والاندماج الاجتماعي، والحركات النمطية المتكررة. ومن هذا المنطلق، يرى الدكتور حمود أن رياضة الباركور، عند ممارستها في إطار التدريب الفردي المقتصر على العلاقة بين المدرب والطفل، يمكن أن تقدم فوائد فريدة.
وأوضح الاستشاري العصبي أن التركيز على التدريب المنفرد يزيل الضغط عن الطفل للتواصل أو الاندماج الاجتماعي القسري، ما يجعله أكثر تقبلاً للنشاط. فإذا أحب الطفل الباركور، سيكون مستعدًا للقيام به دون الحاجة إلى التفكير بصعوبة في التعبير عن نفسه، على عكس الأنشطة التي لا يفضلها وتتطلب منه تواصلاً مستمراً مرهقا.
كما أشار حمود إلى أن الحركات النمطية المتكررة التي يقوم بها طفل التوحد هي بمثابة طريقة لتفريغ الطاقة والتعبير عن أمور يعجز عن التعبير عنها بالكلام. ولهذا، يرى أن الباركور يمكن أن تستوعب فائض الطاقة المصاحب للتوحد، ويحوّله إلى نشاط بناء ومُوَجَّه.
وفيما يتعلق بالدراسات العلمية، لفت الدكتور حمود إلى أنه “لا توجد دراسات دقيقة حالياً تسمح بالقول بأن رياضة الباركور مفيدة بشكل مثالي لجميع أطفال التوحد”. وأكد أن الفائدة تظل مبنية على التجربة الشخصية لكل طفل، مشيراً إلى أن تعليقات الأهالي تميل لصالح الباركور عندما يكون التدريب منفرداً وليس ضمن فرق جماعية. وأضاف أن تجاوب الطفل يعتمد بالأساس على ميله الشخصي وحبه للرياضة، ولن يكون التجاوب متشابهاً بين جميع الأطفال.
وختاماً، سلط حمود الضوء على إمكانية وجود مواهب حركية متميزة لدى بعض أطفال التوحد، قائلاً: “طفل التوحد لا يفكر بطريقتنا”. وقد ينظر إلى الباركور بطريقة فريدة، حيث يرى فيها مساحة للتعبير عن نفسه أو عن “أمور يراها” بطريقة حركية مبتكرة.
تحليل السلوك التطبيقي
وفي المقابل قالت إيمان أبوشباب، محللة السلوك التطبيقي في «عيادة أمان للعافية»، إن رياضة الباركور تُعد شكلاً مهماً من أشكال النشاط البدني، إذ تسهم الرياضة عموماً في تعزيز الصحة الجسدية والذهنية لكل الأفراد، لكنها شددت على أن ربط تأثيرها المباشر بأطفال اضطراب طيف التوحد يحتاج إلى دراسات وأدلة علمية أكثر وضوحاً تثبت فاعليتها في هذا المجال.
وأضافت أن خصائص الباركور، التي تجمع بين التناسق الحركي و استخدام التعليمات البسيطة بشكل متكرر مع الاستمرارية ودقة وسرعة تنفيذ التعليمات من قبل الطفل وإعطاء التغذية الرجعية المباشرة (ردة الفعل) من قبل المدرب، تتوافق مع احتياجات العديد من الأطفال ذوي التوحد، وهي عناصر تلعب دوراً رئيسياً في تطوير مهارات الاستجابة والطلاقة لدى هؤلاء الأطفال. وأشارت إلى أن الطابع الحركي السريع لهذه الرياضة يجعلها وسيلة مناسبة لتحفيز التركيز وسرعة الاستجابة لديهم، بحيث يمكن ملاحظة الفارق في الأداء قبل وبعد الممارسة.
وأوضحت أبوشباب أن ملاءمة الباركور للطفل من ذوي التوحد تعتمد بشكل أساسي على ميوله وقدرته الحركية، إلى جانب وعي المدرب بفهم ماهية اضطراب طيف التوحد، «فالمدرب يجب أن يكون مؤهلاً ومدركاً لطبيعة التحديات التي قد تواجهه، مثل الحساسية المفرطة أو ردّات الفعل غير المتوقعة، حتى يكون التدريب آمناً ومثمراً»، بحسب تعبيرها.
وحول تأثير الباركور على سلوك الطفل في تعميم المهارات المكتسبة التي قد تفيد الطفل في المنزل أو خارج البيئة الرياضية، قالت أبوشباب إن هذه المعلومة لا تزال غير موثقة علمياً، إذ لم تُجرَ دراسات دقيقة تثبت تأثير هذه الرياضة بشكل مباشر على سلوك الأطفال من ذوي التوحد في حياتهم اليومية. وأكّدت أن دور الأهل هنا محوري من خلال ملاحظاتهم لسلوك أبنائهم بعد المشاركة في هذا النوع من الأنشطة.
وأضافت أن ممارسة الباركور تُعد خياراً صحياً لتفريغ طاقة الأطفال بشكل إيجابي، خصوصاً في ظل الوقت الطويل الذي يقضيه كثير من الأطفال أمام الشاشات، مشيرة إلى أن الرياضات المناسبة لميول الطفل يمكن أن تسهم في تحقيق توازن نفسي وجسدي ملحوظ.
أماكن آمنة لأطفال التوحد
واختتمت أبوشباب حديثها بالتأكيد على أهمية إنشاء أماكن رياضية تراعي احتياجات أطفال التوحد وأسرهم، موضحة أن «الكثير من أولياء الأمور يترددون في إشراك أبنائهم في الأنشطة الرياضية بسبب الخوف من عدم قدرة المجتمع على التعامل مع سلوكيات أطفالهم»، مثل محاولات الهرب أو إيذاء الذات أو الآخرين. وأضافت أن توفير بيئات آمنة ومدربين مؤهلين سيمنح الأهالي الثقة اللازمة، مما يفتح المجال أمام أطفال التوحد ليكونوا جزءاً من التجارب الرياضية المختلفة ويساهموا في بناء مجتمع أكثر شمولاً”.
الخليج تايمز