الإعاقة ليست مرضًا يمكن علاجه

سنابل الأمل / متابعات

د. عبدالله المدهش       

الإعاقة ليست مرضًا يحتاج إلى علاج، ولا عيبًا يجب إخفاؤه، بل هي حالة إنسانية تعبّر عن التنوع الطبيعي الذي أبدعه الله في خلقه. فكما تختلف الملامح والألوان والأطوال والأفكار، يختلف الناس أيضًا في قدراتهم الجسدية والحسية والعقلية. هذا التنوع هو ما يصنع جمال الحياة وتوازنها، وما يمنح الإنسانية معناها الحقيقي.

 

ومع ذلك، لا يزال كثيرون ينظرون إلى ذوي الإعاقة من زاوية طبية ضيقة، تختزلهم في الجسد وتتعامل معهم كـ”مرضى” يحتاجون إلى تصحيح أو علاج. هذه النظرة، التي تُعرف بالنموذج الطبي للإعاقة، جعلت الطبيب أو المختص هو صاحب القرار في تحديد ما إذا كانت حياة الإنسان “صالحة” أو “ناقصة”، بينما حُرم ذوو الإعاقة من حقهم في أن يكونوا شركاء فاعلين في مجتمعاتهم.

 

لقد بلغ هذا الفكر الطبي القديم حدًّا جعل بعض الاتجاهات العلمية القديمة تتعامل مع الإعاقة كخلل يجب إزالته من الجينات قبل الولادة، وظهرت أصوات تدعو إلى التعديل الوراثي أو الانتقاء الجيني لإنتاج “مجتمعات خالية من الإعاقة”، وكأن الاختلاف البشري عيب في الخلق ينبغي تصحيحه. هذه النزعة تحمل خطرًا أخلاقيًا وإنسانيًا كبيرًا، لأنها تُفرغ الإنسانية من معناها القائم على التنوع والقبول. فالإعاقة ليست نقيضًا للصحة، بل وجه آخر للحياة.

 

ومع ذلك، لا يعني هذا رفض الإجراءات الوقائية والاحترازية التي تهدف إلى حماية صحة الإنسان، مثل برامج الفحص قبل الزواج والكشف المبكر، فهذه تدخلات طبية نبيلة تُعنى بالوقاية من الألم والمعاناة، لكنها تختلف جوهريًا عن فكرة “استبعاد المختلفين” أو “تصحيح الجينات”. الفرق بينهما هو الفرق بين الرحمة والهيمنة، بين الوقاية من المرض وإنكار التنوع الإنساني.

 

يقول العالم مايك أوليفر (Mike Oliver)، وهو من أشهر علماء العالم في دراسات الإعاقة، في أحد أشهر اقتباساته: “الإعاقة لا تكمن في الجسد، بل في المجتمع الذي يضع الحواجز أمامه”. لقد كان أوليفر يرى أن المشكلة ليست في الكرسي المتحرك بل في السلالم التي تمنع صاحبه من الدخول، وليست في ضعف البصر بل في غياب الكتاب المطبوع بطريقة برايل. المجتمع، لا الجسد، هو من يعيق الإنسان.

 

لقد ترك هذا النموذج الطبي أثرًا عميقًا في حياة ذوي الإعاقة وأسرهم. فالكثير منهم يعيش تحت ضغطٍ نفسي دائم؛ إما لأن المجتمع يراهم “ناقصين”، أو لأنهم يُدفعون إلى البحث المستمر عن علاجٍ غير موجود، بدلاً من البحث عن حياة كريمة ممكنة. الأسر بدورها تتأرجح بين الأمل واليأس، بين الرغبة في القبول والخوف من الوصمة المجتمعية ونظرة البعض الدونية.

 

العالم فيك فينكلستاين (Vic Finkelstein)، وهو من أشهر من نادى بضرورة تفكيك الفكرة الطبية للإعاقة، قال ذات مرة إن “الإعاقة ليست مأساة شخصية بل نتيجة اجتماعية”، مشيرًا إلى أن المجتمع هو من يصنع الفوارق حين يبني بيئات غير مهيأة، ويفكر بعقلية لا ترى إلا “النموذج الكامل للجسد”. أما المفكر توم شكسبير (Tom Shakespeare) فقد دعا إلى تجاوز الثنائية بين النموذج الطبي والاجتماعي، مؤكدًا أن الإعاقة جزء من التجربة الإنسانية يجب أن تُفهم في ضوء التفاعل بين الجسد والثقافة والبيئة معًا.

 

وفي رؤية أكثر عمقًا، تقول الباحثة روز ماري غارلاند تومسون (Rosemarie Garland-Thomson): “الإعاقة ليست انحرافًا عن الطبيعة، بل شكل من أشكالها”. فالتنوع الجسدي ليس استثناءً بل هو قاعدة الحياة. الجسد الإنساني ليس معيارًا واحدًا جامدًا، بل جوهرة متنوعة من القدرات، وكل اختلاف فيه يحمل معنى وقيمة وجمالًا خاصًا.

 

إن التوجه الحديث اليوم في فهم الإعاقة يقوم على الاعتراف بأن التحدي الحقيقي لا يكمن في الأفراد أنفسهم، بل في البيئات التي تحيط بهم. الطرق غير المهيأة، والمباني غير الصديقة للتنقل، والمدارس التي لا تراعي تنوع القدرات، وسوق العمل الذي لا يفتح أبوابه للجميع. كل هذه الحواجز تصنع الإعاقة وتعمقها. لذلك، فإن جوهر العمل الحقيقي ليس في “علاج” الأفراد ذوي الإعاقة، بل في علاج البيئات المحيطة بهم.

 

تقول الباحثة فيونا كوماري كامبل (Fiona Kumari Campbell): “ما يجب علاجه ليس الجسد، بل الثقافة التي ترفض الاختلاف”. وهذه العبارة تختصر التحول المطلوب في التفكير والسياسات؛ فالمجتمع الذي يتعامل مع الاختلاف باعتباره مشكلة، سيظل عاجزًا عن بناء حضارة تحتضن الجميع. أما المجتمع الذي يزرع في مؤسساته قيم الشمول والتنوع والعدالة، فهو الذي يحقق التوازن الإنساني الحقيقي.

 

إن تطوير البيئات المحيطة بذوي الإعاقة ليس ترفًا حضاريًا، بل ضرورة إنسانية وتنموية. فكل عائق في الطريق، وكل باب غير مهيأ، وكل فكرة نمطية تقيّدهم، هي في الواقع عائق أمام المجتمع بأكمله. إزالة هذه التحديات لا تتم بالنيات الطيبة، بل عبر سياسات واضحة، وتخطيط منظم، وتشريعات ملزمة وبحثًا علميًا مؤثر تجعل من الشمول نهجًا لا شعارًا. حينها فقط، يتحول المجتمع من مكان “يعالج” ذوي الإعاقة إلى مكان “يحتويهم ويُمكّنهم”، فتتحول الإعاقة من مصدر إقصاء إلى مصدر إثراء.

 

الإعاقة ليست مأساة ولا مرضًا، بل مظهر من مظاهر الجمال الإنساني والتنوع الخلاق. والنظر إلى ذوي الإعاقة كقيمة مضافة للتنوع البشري، لا كعبء أو حالة تحتاج إلى علاج، هو ما يصنع الفرق بين مجتمعٍ يخاف من الاختلاف ومجتمعٍ يحتفي به. فالتطور الحقيقي لا يُقاس بعدد من نُعالج، بل بعدد من نُمكّن ليعيشوا بكرامة واستقلال.

 

جريدة الرياض

 

Comments (0)
Add Comment