سنابل الأمل / متابعات
في أروقة معرض الشارقة الدولي للكتاب، تنطلق قصص مُلهمة تضيء زوايا الثقافة بالإصرار والإبداع، حيث يكتب أصحاب الهمم رسالة أمل تصدح بالحياة وسط صفحات الكتب التي تجاوزت حدود الحروف لتصبح جسراً يحمل أصواتهم للعالم. من رحلات التحدي والنجاح التي تحولت فيها المشاعر والألم إلى كلمات تلامس القلوب، يبرز اثنان من الكتّاب الإماراتيين من أصحاب الهمم الذين جعلوا من الكتابة رسالة للحياة وشغفاً للروح.
في زوايا المعرض، لا تُعرض الكتب فقط، بل تُروى القصص. قصص من استطاعوا أن يحوّلوا الألم إلى إبداع، والتحدي إلى نجاح، والحروف إلى جسر يوصل رسائلهم للعالم. ومن بين هذه الأصوات البارزة، برزت كاتبتان إماراتيتان من أصحاب الهمم، حملتا قلوباً مؤمنة بأن الكتابة ليست مجرد مهنة، بل رسالة حياة، وعقولاً عامرة بالشغف.
رحلة العلاج إلى صفحات الأمل
تقول الكاتبة الشابة الإماراتية روضة المري إن شغفها بالكتابة بدأ من بيتها، ومن والدتها التي غرست فيها حب الحرف والمعرفة منذ الطفولة، مؤكدة: “الوالدة حببتني في هالمجال. كانت تكتب من بداياتها، وعلّمتني كيف أتعلق بالكلمة والكتاب.”
كانت البذرة الأولى في رحلتها عندما طُلِب منها في المدرسة أن تكتب قصة قصيرة. اختارت أن تكتب عن جريمة غامضة في الجامعة، بأسلوب ناضج فاجأ معلمتها التي قالت لها بدهشة: “أنت صغيرة، كيف تكتبين بهذا الأسلوب الجميل؟” ومن هنا، بدأت رحلتها.
تحكي روضة أنها كانت حينها في الصف السادس، في فترة علاج طويلة في الولايات المتحدة، حيث وجدت في الكتابة ملجأ وصديقاً. كانت وحيدة في المصحة، لكنها لم تكن تشعر بالفراغ لأن الورق كان وطنها الصغير. تقول: “كنت في رحلة علاج في أمريكا، وعندي فراغ كبير. فصرت أكتب عن حياتي، عن التحديات، عن الناس اللي قابلتهم، ومنهم الشيخ محمد بن راشد [حفظه الله].” ومع الوقت صارت القصة أكبر، حتى ختمتها بلحظة تكريم الشيخ محمد بن زايد لها بسبب نسبتها العالية في الثانوية.
من هنا وُلد كتابها الأول «نور يسطع بالأمل»، الذي تناول قصتها مع التحدي والنجاح والإصرار، موجهاً رسالة مفادها أن “كل ظلمة يضيئها الأمل.”
أما كتابها الثاني «أوتار قلب تعزف ألحان الحنين»، فجاء مختلفاً وأقرب إلى الذات والوجدان، حيث كتبت فيه خواطر قصيرة تعبّر عن مشاعر ومواقف مرّت بها في حياتها، وقالت عنه: “كل كلمة كتبتها كانت من القلب، من مواقف أثّرت فيني، فقد، شوق، تذكّر، أو حتى ابتسامة.”
وترى روضة أن الكتابة بالنسبة لها ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل علاج روحي وتفريغ نفسي: “أنا يوم أكتب أفرّغ اللي بداخلي. الكتاب يختارك، إذا لمسك من الداخل، يقول لك خذني.” وتؤكد أن جمهورها ليس فئة عمرية محددة، بل كل من يبحث عن رسالة أو أمل في الحياة، لأن “كل إنسان مرّ بتحدي، راح يلاقي نفسه في كتاباتي.”
حين يجد الصم صوتهم على الورق
في زاوية أخرى من المعرض، كانت فاطمة السلطان العلي، إحدى أبرز عضوات نادي دبي لأصحاب الهمم، وهي كاتبة إماراتية تنتمي لفئة الصم. استطاعت فاطمة أن تثبت أن “الصمت لا يعني العجز، بل لغة أخرى للفهم والإبداع.”
تقول فاطمة من خلال مترجمتها بلغة الإشارة: “الكثير يظن أن الصم غير قادرين على الاندماج أو الإبداع، لكننا بالعكس نملك الحماس والشغف، فقط نحتاج مترجماً يُخرج ما بداخلنا للعالم.”
تخصصت فاطمة في علم الاجتماع، وهو ما ساعدها على فهم المجتمع والتفاعل معه بعمق. واجهت في طفولتها تحديات عديدة بسبب ضعف الوعي المجتمعي تجاه الصم، لكنها رفضت الاستسلام، وقررت أن تكون جزءاً من التغيير. فمن خلال كتابها «البحث عن الصوت»، حاولت أن تكتب تجربتها مع الصمت بلغة يفهمها الجميع؛ لغة القلب. أرادت أن تقول إن الصوت لا يعني فقط الكلام، بل الفكر والموقف والرؤية.
تضيف فاطمة: “نحن الصم في دولة الإمارات نفتخر بوطننا، ونريد أن ننشر ثقافة لغة الإشارة الإماراتية في كل مكان. نريد أن نُعرّف الناس أننا طبيعيون، نعيش ونعمل ونبدع مثل الجميع، ولدينا الحق في أن نُعامل بالمساواة.” وترى أن الدعم المجتمعي الذي توفره مؤسسات مثل نادي دبي لأصحاب الهمم هو ما يمنحهم المساحة للتعبير والتطور، مؤكدة أن أهم ما يحتاجه الصم هو توفر المترجم في كل محفل ثقافي أو تعليمي، لأن “الكلمة أحياناً تنقذ حلماً من الصمت.”
الكتابة كجسر إنساني من الصمت إلى النور
كل من الكاتبتين، رغم اختلاف ظروفهما، تجمعهما قناعة واحدة: أن الكتابة طاقة نور، وأن الحروف يمكن أن تكون يداً تمتد إلى الآخر.
تقول روضة بن عوقد: “أنا بدأت أكتب لأني أبغي أروي الناس شو مريت فيه، عشان يتعلمون إن الحياة ما توقف عند الألم. أكتب لأثبت أن الصم قادرون على أن يُبدعوا، وأن صوتنا يصل ولو بلغة الإشارة.”
يؤكد حضور أصحاب الهمم في معرض الشارقة الدولي للكتاب أن الثقافة ليست حِكراً على أحد، بل هي فضاء مفتوح للجميع. حضورهم المبدع يبرهن أن الكلمة قادرة على تجاوز الإعاقة، وأن القلم حين يمسكه الأمل، يكتب أجمل الحكايات