الرثاء الشرعي: كلمات وفاء بلا مخالفة
سنابل الأمل/خاص
بقلم الدكتور عثمان بن عبدالعزيز آل عثمان
الرثاء شعورٌ إنسانيٌّ نبيل، يُعبِّر به المرء عن حزنه لفقد من يحب، ويخلِّد به ذكرى من مضوا بصدق الدعاء، وجميل الوفاء. وقد أقرّ الإسلام هذا المعنى الرفيع، فجاء الرثاء الشرعيّ طريقًا مشروعًا للتعبير عن الحزن، بشرط ألا يشتمل على ما يُخالف العقيدة، أو يخرج عن آداب الإسلام.
الرثاء في اللغة: هو ذكر محاسن الميت والحزن عليه. وأما في الشرع، فهو التعبير بالكلمة الصادقة عن الأسى لفقد الميت، من خلال الدعاء له، وذكر فضائله، واستحضار مواقفه الخيّرة، من غير جزعٍ ولا سخط، ولا تجاوزٍ لحدود الأدب مع الله تعالى وقضائه.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم رثاؤه لبعض أصحابه، كما رثى جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، فقال: “أخذ الراية زيد فأُصيب، ثم أخذها جعفر فأُصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأُصيب…” وكانت عيناه تذرفان. رواه البخاري.
ولكي يكون الرثاء مشروعًا، ومحبوبًا إلى الله تعالى، لا بد أن يتقيّد بجملة من الضوابط، منها:
١- الرضا بقضاء الله وقدره؛ فالمؤمن لا يتسخّط، ولا يعترض على حكم الله، بل يسلِّم تسليمًا.
٢- خلوّه من النياحة والجزع؛ كضرب الخدود، أو شقّ الجيوب، أو رفع الصوت بالبكاء المحرّم.
٣- أن يكون خاليًا من الغلو والمدح المبالغ فيه؛ كادعاء دخول الجنة جزمًا، أو رفع الميت فوق منزلته.
٤- الحرص على الدعاء للميت بالمغفرة والرحمة والنجاة من النار.
٥- ذكر محاسن الميت لا بقصد الفخر، بل تذكيرًا بالعبرة وحُسن الخاتمة، وتحفيزًا للأحياء على الاقتداء بالخير.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى”، فالصبر الحقيقيّ هو ما يكون عند أوّل وقوع المصيبة، لا بعد أن تهدأ النفوس وتبرد الأحزان.
ومن الرثاء المشروع الدعاء للميت بالرحمة والمغفرة، كقولنا: “اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعفُ عنه، وأكرم نُزله، ووسّع مدخله…”، وكذلك وصفه بالصفات الحميدة، كقولنا: “كان -رحمه الله- من أهل الخير، حريصًا على الطاعة، حسن الخلق، طيب السيرة”، مع تعزية أهله بعبارات جامعة: “أحسن الله عزاءكم، وغفر لميتكم، وربط على قلوبكم، وجعل مصابكم كفّارة وأجرًا”.
وإن من تمام الإيمان أن نستحضر عند المصيبة قول الله تعالى:
“الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ”
[البقرة: ١٥٦]
فهي الكلمة التي تملأ القلب تسليمًا ورضًا، وتستجلب الرحمة والمثوبة من ربّ العالمين.
إن الرثاء الشرعي ليس بكاءً مجردًا، بل هو عبادة قلبية ولسانية، تعبّر عن الوفاء، وتحيي الذكر الطيب، وتدعو للميت بما ينفعه، من غير مخالفة لأحكام الدين أو تجاوز في القول. فلنحرص حين نرثي أحبابنا أن تكون كلماتنا صدقة جارية لا مخالفة جارية.
نسأل الله تعالى أن يرحم موتانا وموتى المسلمين، وأن يُلهمنا الرضا والثبات، وأن يجعل ذكراهم باعثًا على الطاعة، وسببًا للمغفرة والرحمة.