الإعاقة بالمغرب بين الاعتراف والفعلية

0 15

سنابل الأمل / متابعات

الإعاقة بالمغرب بين الاعتراف تمثل الإعاقة قضية مجتمعية تتطلب مقاربة حقوقية ومنهجية تشاركية غير قابلة للتجزئة، إلا أن التهميش لا يزال العنوان العريض الذي يمكن من خلاله توصيف واقع الإعاقة ببلدنا رغم دسترة الحقوق الأساسية للأشخاص في وضعية إعاقة والمصادقة على الاتفاقية الدولية والبروتوكول الإضافي وتوفرها على ترسانة قانونية هامة لحماية حقوق هذه الفئة والنهوض بها، بيد أن تمثلات الأفراد والفاعلين السياسيين قد ساهمت بشكل كبير في عرقلة وتأخر ملف الإعاقة بالمغرب، أدى ذلك لعدم بلورة وتفعيل السياسات الموجهة لفائدة الأشخاص في وضعية إعاقة وإلى إقصائهم من مجالات عدة بطرق مباشرة وغير مباشرة، تتمثل هذه الأخيرة بالأساس في انعدام الشروط التيسيرية من ولوجيات ووسائل تقريبية وكذا النظرة الدونية والإحسانية التي تحد من حريتهم واندماجهم.

إن هذا الأمر يتطلب ثورة فكرية قبل أي شيء آخر، عن طريق تحديث وتحيين النظرة حول الأشخاص ذوي الإعاقة. فالتمثلات السلبية تقتضي انقلابا حقيقيا في عوائد التفكير والممارسة على السواء. وهذه النقلة ليس من اليسير القيام بها، فالصناعة الثقافية عملت على تنميط تمثلات وحياة الناس وتوجيهها. لذا فهذه النقلة يجب أن تسري بسلاسة وذكاء شديدين، بل هي مخاض عسير يجب أن تقوم به وسائل الإعلام ومختلف المؤسسات. وبالتالي، عوض الاستنفار من موضوع الإعاقة تكون ثقافة الاستشراف عليه.يقتضي هذا الشأن ثورة ما دام الأمر يتعلق بثقافة مجتمع، وإن كل انقلاب في عوائد الممارسة يسبقه انقلاب في عوائد التفكير، وهذا يعني القطع مع “مألوف الجماعة” لما تعودت عليه من أفعال وأقوال وأنماط ضمن سيرورة اليومي. بحيث لا زال المواطن اليوم يعيش ماضيه في حاضره، والالتواء حول ثقافة “الكيتش” kitsch؛ أي النظر في مرآة الوهم للتعرف على الذات قصد تحقيق نوع من الإشباع، فالأمر إذن يتعلق بثورة فكرية تجري على مستوى العقل قبل أن تجري على مستوى الواقع، ذلك تحقيقا لتأهيل مجتمعي صحيح ومتين.

إن إذكاء الوعي يقتضي انقلابا يزحزح القناعات ويقلب تصورات الناس. التصورات التي تشكلت في الماضي البعيد والقريب على حد السواء.

وبالتالي الاستعاضة على وعي الأمس المتجذر في عقول الأجيال وسلوكياتهم تجاه الإعاقة بوعي جديد ورؤية مغايرة سواء للعالم أو للفرد، لهذا فقد كان دائما التغيير يأتي من الفرد وليس الجماعات، من العقل الفردي وليس الجمعي.

لذا يجب امتلاك مناعة ضد الفكر التقليدي أو الضمير الجمعي حسب تعبير “دوركايم” حيال مزالق الهويات والتمثلات المتشنجة، عن طريق خلق مناخ تربوي وفكري للأجيال المقبلة خصوصا، يجعلها تعتبر الاختلاف والتنوع الثقافي جزءا من العالم وليس عالما آخر عليه أن يواجه العالم.

لقد اتخذ مشروع الإعاقة في الآونة الأخيرة عنوانا كبيرا ألا وهو البشرى أو البشارة العظيمة التي تنبئ بقرب الخلاص؛ خلاص الشخص في وضعية إعاقة من كل التمثلاث التي تحد من حريته وتقصيه وتحول دون تحقيق هويته والارتقاء بنفسه أو الاستفادة من حقوقه.

فهل تحقق الخلاص؟

أو على الأقل هل اقترب الخلاص؟

يمكن القول إن نصف الخلاص قد تحقق ببلدنا، فمن الشطط إنكار كل شيء، وإنكار محاولات النهوض بحقوق الأشخاص في وضعية إعاقة ونفض عنهم غبار التمثلاث العالقة بهم جملة وتفصيلا، فالتشريعات والمبادرات والنقاشات العمومية، رغم قلتها، تشهد على بعض الجوانب المشجعة والثمينة في بناء المشروع التنموي للإعاقة، وهي شهادة لا يمكن ردها بكل حال من الأحوال، بيد أن مثل هذه الشهادات لا تقدم دليلا على وعود مشروع الرعاية والدعم والحماية وغيرها من الشعارات والكليشيهات الجاهزة الفضفاضة والوهمية التي يتغنى بها لفائدة الشخص في وضعية الإعاقة في طريقها للإنجاز والتحقق، أعني الوعود المبشرة بتحريره من عوائقه الداخلية والخارجية، فما تحقق من مشروع الإعاقة بكل صراحة وموضوعية هو الجانب النظري المتعلق بتداول المحفوظات المستعارة والأناشيد، لكن في المقابل ظل الجانب الفعلي الإجرائي غائبا، ناهيك عن الجانب التواصلي مع هذه الفئة.

يظهر من كل هذا أن مشروع الإعاقة لم يكتمل بعد أو لم يبدأ بعد حتى، كما لم تتضح معالمه.

فقد ظلت القوانين والتشريعات الوطنية والدولية والتنظيرات المحلية حبرا على ورق، بل منها ما دخل رفوف النسيان كبطاقة المعاق والمشاريع المدرة للدخل الخاصة بهذه الفئة ومرسوم 7% الذي صدر منذ سنة 2000، ناهيك عن عدم استفادة هذه الفئة من الدعم الذي يمنحه صندوق التماسك الاجتماعي الذي يزيد في غنى بعض الفئات المحظوظة التي تتسول بصفة الجمعية كوسيط بين الدولة والشخص المعاق باعتبارها الداعم له، فعوض تقديم الدعم للشخص المستهدف مباشرة يُمنح لجهات معينة ثم بعد ذلك قد يصل أو لا يصل للشخص المعني بالأمر بالأساس، وهنا أتساءل باستغراب عن أسباب هذا العبث، وكأن الجمعيات وسيط لا غنى عنه بين الدولة والشخص المعني بالدرجة الأولى؛ كما أن غالبية هذه الجمعيات متحزبة تستغل سذاجة المعاقين وباقي الأشخاص الفقراء البسطاء وترشيهم في فترات الانتخابات بمواد غذائية “الفتات” لا تتعدى قيمتها الإجمالية مائتي درهم كحد أقصى للتصويت لفائدة أحزاب “إمبراطورية المليارات”.

أمام هذا الوضع يضطر المعاق لنصب صندوق بشارع محمد الخامس على مقربة من مقر البرلمان وطلب المساعدات من المارة في منظر مؤلم لا يجب أن يحدث في مغرب القرن الواحد والعشرين.أما فيما يخص مجال تشغيل هذه الفئة فقد عرف صدور مرسوم “المباراة الموحدة” سنة 2018 التي لا يرقى عدد مناصبها إلى مستوى تطلعات هذه الفئة، والتي جاءت كما يعرف الجميع في سياق دموي مأساوي لم يعرف المغرب له مثيلا بموت معاقين في ساحة النضال. ولامتصاص غضب هذه الفئة تم اعتماد هاته الصيغة كحل ترقيعي لملف مكتوب بالدم وبأطرافه الموت.

فالمعاقون، وخاصة المكفوفين منهم، ما يزالوا يتشممون رائحة الدم التي تفوح من وزارة التضامن والادماج الاجتماعي والأسرة بالعاصمة الرباط.

وللإشارة أيضا أن يوم الإثنين الماضي قد عرف إصابة مكفوف على مستوى الرأس والوجه إصابة خطيرة كادت تودي بحياته نتيجة اشتباكات بينه وبين القوات العمومية، حيث يتم تعنيف هؤلاء في كل مرة يطالبون فيها بعمل يضمن لهم كرامتهم ويقيهم شر الفقر، وهنا يطرح سؤال جوهري فيما إذا كانت التمثلاث تجاه هذه الفئة تطال الدولة أيضا، وليس فقط المجتمع والمحيط الذي يعيش فيه هؤلاء.

إن ما يكمل الجانب النظري هو الجانب التطبيقي الإجرائي، فما بعد التنظير يوجد الوعي والنظام والإصرار لتحقيق النتائج، وبالتالي الارتماء في شرك المبادئ الكبرى التي قامت عليها الإنسانية وسيدخل المجتمع عصر الحداثة بكل تداعياته وثوراته العالمة الجارفة، وتصير السياسة أخلاقا تتوفر على إرادة ورغبة مثلى.

يتبين مما سبق أن مشروع النهوض بحقوق الأشخاص في وضعية إعاقة والرقي بها يعود بنا إلى نقطة انطلاق بعيدة تجد في الرغبة المجتمعية والإرادة السياسة مبتدأها ومنتهاها.إن “تسييس” ملفات مجتمعية من هذا الحجم بمنهج “الميكيافيلية” فيه نوع من تحقيق ذات “الأوليغارشية” المحتكرة للسلطة والنفوذ عوض ذوات الأفراد وتحقيق المصالح العليا للمجتمع، سياسة تقوم على منطق “لا تكن رحيما” وتكتيك “جوع كلبك اتبعك” وفق المقولة الشهيرة المنحدرة من التراث الشعبي لدينا؛ أي عدم إعطاء كل شيء، بل جزء بسيط جدا والتلاعب ورسم سياسة نظرية غير مكتملة وغير واضحة لحقوق وامتيازات الفئات، خاصة ذوي الإعاقة، التي تكفلها الإعلانات والاتفاقيات الكونية والتشريع السماوي والقانون الوضعي والنزعة الإنسانية التي تقبل بالاختلاف والتفاوتات فطريا.فالفاعل السياسي في القضية يعتبر ذلك دهاء، ويلجأ عوض سلك طريق التنمية إلى “الالتواء”، اللهم إذا كان يرغب في تطويع الأفكار النظرية على الواقع، إلا أنه يفتقد الشجاعة السياسية لتنفيذ ذلك أو يصطدم بسياسات وأجندات أخرى مبيتة أو إكراهات موضوعية نجهلها، وهذا الطرح الأخير مستبعد.

فالجميع يعلم أن الحسم في القرارات والمشاريع المجتمعية يدخل في لعبة التوافقات التي لا تحسمها الأحزاب وحدها بل تدخل في علاقتها بالدولة، وفي حالة عدم موافقة هذه الأخيرة يحتفظ بأغلب المقترحات في “الكواليس” تجنبا للإحراج السياسي، وهنا نكون في إطار سياسة فاشلة، فيظل السياسي “الواجهة” يقتات على الأطاريح المستعارة والشعارات الفارغة من المعنى ويؤدي رقصات ارتجالية إعلامية “كديك مذبوح”.

المدرسة الأبيقورية تقول “إن من لا يحقق رغباته فهو شقي، ومن يسقط ضحية تخوفاته فهو بئيس”.

هل لنا أن نخلص في الأخير من هذه الحكمة الأبيقورية إلى الاستنتاج التالي: إن الرغبة في مشروع التنمية يجب التعامل معها بمنطق الجرأة والشجاعة لكي لا نكون بؤساء سياسيا وإنسانيا، وإن تطبيق هذه القاعدة يفرض علينا ضرورة الإقدام على خطوات جريئة ومسؤولة، فقد يكون من المفيد التعامل مع الإعاقة بنفس المنطق الذي تعاملت هي نفسها به مع العالم والطبيعة القاسية بدل التصدي لها بطرق غير ناجعة.

نتمنى صادقين أن تكون إرادة الفاعل السياسي ببلدنا صادقة وقوية في المستقبل القريب لتفعيل وتحقيق سياسات شجاعة تجاه هذه الفئة وأن تهب ريح فكرية مجتمعية مواتية لتشق هذه السياسات طريقها، وفي انتظار ذلك سيمكث غالبية الأشخاص في وضعية إعاقة بأكوان منازلهم الكئيبة بدون هوية. يخوضون تجربة الحدود القصوى للمرض والقذارة والبؤس.

تضارب بين الجسد والروح والطبيعة، روح في واد وجسد في واد آخر وأيام تحرق.

قساوة الواقع من جهة وسطوة التمثلاث من جهة أخرى.

خارج مسار التنمية وغير مستفيدين من ثمارها.

مترقبين ريحا ستأتي.. وللأسف غالبا ما تهب ريح شرقية، ماذا سيفعلون بهذه الريح التي تعاكسهم؟

لن تزيدهم سوى بؤس وشقاء.. في انتظار هبوب الريح الغربية.

نخلص في المنتهى بسؤال مفتوح وبالنظر للسياق الذي يعرفه المغرب اليوم عن مكانة الأشخاص في وضعية إعاقة في النموذج التنموي الجديد وأية حماية اجتماعية لهم؟

مصطفى تهموم

هسبريس

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق