التقاعد المبكر لذوي الإعاقة.. خيار مدروس يحقق الاعتبارات الإنسانية والاستدامة المالية للنظام التأميني
سنابل الأمل / متابعات
أصدر صندوق الحماية الاجتماعية مؤخرا قرارًا بإتاحة التقاعد المبكر للأشخاص ذوي الإعاقة وفق شروط محددة وهو ما يجسد مرونة القانون في مراعاة الأوضاع الخاصة وخطوة تعكس التزام سلطنة عمان بالبعد الإنساني في وضع الاعتبارات التشـريعية والإدارية، وتؤكد على أهمية تمكين هذه الفئة باعتبارها طاقة فاعلة تستحق الرعاية والدعم، بما يضمن لها ولأسرها حياة كريمة ومستقرة.
اعتبارات إنسانية
وقالت شمسة بنت حمدان التميمية، مديرة دائرة الشؤون الطبية في صندوق الحماية الاجتماعية: إن الدوافع الرئيسية لإصدار قرار التقاعد للأشخاص ذوي الإعاقة تنبع من اعتبارات إنسانية بالدرجة الأولى، إذ يواجه الأشخاص ذوو الإعاقة تحديات مضاعفة على مختلف أصعدة الحياة، سواء في بيئة العمل أو في المجتمع بشكل عام، ومن هذا المنطلق، يأتي هذا القرار ليجسد التزام منظومة الحماية الاجتماعية بمبادئ العدالة والإنصاف، من خلال منح هذه الفئة إمكانية التقاعد المبكر غير الخاضع لنسب الخصم، بما يضمن لهم دخلا مستقرا، وصونا لكرامتهم المعيشية، إذ يؤكد القرار انسجام المنظومة مع المبادئ والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحفظ حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، فضلا عن توافقه مع رؤية “عُمان 2040″، التي تضع الإنسان في صميم عملية التنمية، وتؤكد على ضرورة تمكين جميع فئات المجتمع، وبموجب القرار، يحق للمؤمّن عليهم من الأشخاص ذوي الإعاقة طلب التقاعد المبكر دون تطبيق نسب الخصم عند بلوغ سن الخمسين، بشـرط استيفاء 15 سنة خدمة فعلية أثناء فترة الإعاقة، أي بعشر سنوات أقل من السن المقرر للتقاعد الاعتيادي لفئة كبار السن، كما أتاح القرار خيار التقاعد المبكر الخاضع لنسب الخصم عند سن الخامسة والأربعين، بذات شرط مدة الخدمة، وذلك وفقا لما ورد في المواد (75)، (76)، و(79) من قانون الحماية الاجتماعية، في تجسيد واضح لمرونة القانون واستجابته لاحتياجات هذه الفئة.
العدالة الاجتماعية
وأشارت إلى أن القرار يجسد أحد الأبعاد الأساسية للعدالة الاجتماعية، التي تقوم على إتاحة الفرص والحقوق لجميع الأفراد على قدم المساواة، مع مراعاة الفوارق الفردية والظروف الخاصة لكل فئة، وفي هذا السياق، لا تُعد الإعاقة عائقًا بقدر ما تُعد ظرفًا يتطلب تدخلات وسياسات مرنة وعادلة، ومن خلال إتاحة خيار التقاعد المبكر للأشخاص ذوي الإعاقة، يقدّم القانون اعترافا عمليا باحتياجاتهم الخاصة، ويُسهم في تمكينهم من التفرغ لحياتهم الأسرية والصحية، بعيدًا عن الضغوط المهنية التي قد تكون مضاعفة في حالاتهم.. كما يعزز هذا القرار شعور الأمان لدى أسرهم، من خلال ضمان وجود مظلة حماية اجتماعية تراعي أوضاعهم وتدعم استقرارهم المعيشي، كما أن هذا التوجه يعكس إدراكا حقيقيا بأن العدالة لا تعني المساواة الصمّاء، بل تتطلب معالجة الفروقات الواقعية بقرارات تضمن الإنصاف، وهو ما تحقق من خلال هذا الإجراء التشريعي.. مشيرة إلى أن تحديد سن التقاعد للأشخاص ذوي الإعاقة جاء ليكون أقل بعشـر سنوات من السن المقرر لفئة كبار السن، كخيار مدروس يجمع بين الاعتبارات الإنسانية مثلما أسلفنا الذكر، بجانب الحرص على استدامة النظام التأميني للصندوق، فقد سعى القرار إلى تحقيق توازن دقيق بين تمكين هذه الفئة من الخروج المبكر من سوق العمل، بما يتناسب مع التحديات الصحية والاجتماعية التي يواجهونها، وبين الحفاظ على الاستقرار المالي لصندوق الحماية الاجتماعية، وهذا الفارق الزمني يُعد بمثابة اعتراف تشـريعي بخصوصية الظروف التي يعيشها الأشخاص ذوو الإعاقة، ويُترجم إلى إجراء عملي يراعي احتياجاتهم دون الإخلال بمبدأ العدالة بين مختلف الفئات أو المساس بالاستدامة طويلة المدى للمنظومة.
حد أدنى للخدمة الفعلية
وأكدت أن تحديد حد أدنى للخدمة الفعلية بـ15 سنة يهدف إلى تحقيق توازن عادل بين حقوق المستفيدين ومتطلبات الاستدامة المالية للنظام التأميني، فهذا الشرط يضمن أن يكون الشخص قد أسهم بشكل فعلي في النظام عبر سنوات خدمته في سوق العمل، وقدم اشتراكات كافية لتوليد استحقاق تقاعدي مستدام، ومن منظور العدالة، فإن هذا المعيار يُرسّخ مبدأ أن التقاعد ليس مجرد استحقاق آلي، بل نتيجة طبيعية لمشاركة حقيقية في سوق العمل، بما يُعزز مصداقية النظام ويضمن عدالة توزيعية بين مختلف الفئات، دون إغفال خصوصية الأشخاص ذوي الإعاقة واحتياجاتهم الخاصة.
جودة الحياة
وأوضحت أن القرار يمثل خطوة عملية نحو تحسين جودة حياة الأشخاص ذوي الإعاقة وأسرهم، وانعكاسا إيجابيا على استقرارهم الأسري، وذلك من خلال إرساء قدر أكبر من الاستقرار المالي والاجتماعي، فالتقاعد المبكر يخفف من الضغوط المرتبطة بالعمل، سواء الجسدية أو النفسية، ويمنح المستفيدين فرصة للتفرغ للرعاية الذاتية أو الأسرية، بالإضافة إلى التفرغ للعلاج أو التأهيل حسب الحاجة، كما يُمكّن القرار الأسر من إعادة تنظيم حياتها اليومية بطريقة أكثر استقرارًا، ويعزز الشعور بالأمان الاقتصادي، ما يُسهم في تقليل التوترات المرتبطة بالعبء المعيشـي، ومن الناحية المجتمعية، يفتح التقاعد المبكر المجال أمام ذوي الإعاقة للانخراط بشكل أوسع في أنشطة مجتمعية أو تطوعية، بما يعزز اندماجهم ويؤكد على دورهم الفاعل في المجتمع بعيدًا عن الضغوط الوظيفية.
دور المجتمع المدني
وأضافت: يمكن للمجتمع المدني والجمعيات الأهلية أن يؤدوا دورا محوريا في دعم تنفيذ هذا القرار وتعظيم أثره على المستفيدين، إذ تُشكّل هذه الجهات جسرًا فاعلًا بين الأشخاص ذوي الإعاقة ومنظومة الحماية الاجتماعية، من خلال القيام بعدة أدوار تكاملية، من أبرزها التوعية والتثقيف عن طريق نشـر المعرفة حول الحقوق التي يكفلها القانون، وشروط الاستفادة من التقاعد المبكر، بما يضمن وصول المعلومة إلى الفئات المستهدفة بشكل واضح ومبسّط، إضافة إلى تقديم الدعم الإداري من خلال مساعدة المستفيدين في استكمال المستندات المطلوبة، ومرافقتهم في إجراءات تقديم الطلبات، خصوصًا لمن يواجهون صعوبات في الوصول أو الفهم، ولا ينحصر الدور عند هذا الحد بل يتعداه إلى تقديم المبادرات التخصصية حيث يمكن للجمعيات المتخصصة إطلاق برامج تأهيل، أو تقديم خدمات رعاية مساندة، تسهم في تعزيز الاستقلالية وتحسين جودة الحياة بعد التقاعد، وأخيرا رصد وتقييم الأثر من خلال المساهمة في رصد التحديات التي قد تواجه المستفيدين، ورفع التوصيات لصانعي القرار لتحسين تنفيذ السياسات ذات الصلة، وهذا الدور المجتمعي يعزز التكامل بين الجهود الرسمية والأهلية، ويسهم في ضمان استفادة أوسع وأكثر عدالة من القرار.. مضيفة: إن القرار شهد تفاعلا واسعا وإيجابيا من قبل الشارع العُماني منذ الإعلان عنه، حيث اعتبره الكثيرون خطوة متقدمة في مسار العدالة الاجتماعية والتمكين الإنساني في ظل التحديات التي يواجهها الأشخاص ذوو الإعاقة في حياتهم اليومية، كما عكس التفاعل العام وعيا مجتمعيا متزايدا بأهمية تمكين الفئات ذات الخصوصية، وتقديرًا للجهود المؤسسية الرامية التي ترجمت المبادئ الوطنية والإنسانية إلى سياسات واقعية ملموسة. ويُؤمل أن يشكّل هذا القرار حافزًا لتعزيز مزيد من المبادرات الداعمة ضمن إطار رؤية “عُمان 2040”.
حجم المستفيدين
وحول عدد المستفيدين المتوقع مع القرار.. قالت التمتمية: بحسب بيانات وزارة التنمية الاجتماعية، بلغ عدد حاملي بطاقة شخص ذي إعاقة في سلطنة عُمان أكثر من 44500 شخص حتى نهاية عام 2023، ومع أن هذا الرقم يُمثّل القاعدة العامة للفئة المستهدفة، إلا أن ليس جميع الأفراد ضمن هذه الفئة مستوفين حاليا لشروط الخدمة أو السن اللازمة للاستفادة من التقاعد المبكر، أما على المدى البعيد، فإن عدد المؤهلين سيزداد تدريجيا مع مرور الوقت، سواء من خلال التحاق المزيد من الأشخاص ذوي الإعاقة بسوق العمل أو من خلال استيفاء الشروط اللازمة خلال السنوات القادمة.
نسب الإحلال الوظيفي
وردا على سؤال حول تأثير التقاعد المبكر لذوي الإعاقة على سوق العمل أو نسب الإحلال الوظيفي؟ أكدت أنه من المتوقع أن يكون الأثر الناتج عن تطبيق التقاعد المبكر للأشخاص ذوي الإعاقة محدودا وإيجابيا ومتوازنا في آن واحد، فمن جهة، يتيح هذا القرار فرصة للأشخاص ذوي الإعاقة للعيش بكرامة وبما يتناسب مع ظروفهم الصحية والاجتماعية، مع توفير استقرار مالي ومعيشي لهم، ومن جهة أخرى، يساهم في إفساح المجال أمام الشباب الباحثين عن فرص عمل، مما يعزز نسب الإحلال الوظيفي ويحفز دمج الكفاءات الجديدة في سوق العمل، وهذا التوازن بين تمكين الأفراد ذوي الإعاقة وتلبية احتياجات التنمية البشـرية الوطنية يعكس رؤية استراتيجية تهدف إلى دمج كافة الفئات في منظومة اقتصادية واجتماعية مستدامة.
تحسين البرامج التأمينية
وذكرت التمتمية أن صندوق الحماية الاجتماعية يعتمد على مجموعة من الآليات المحكمة لضمان استدامته المالية، من أبرزها متانة السياسات الاستثمارية التي ترتكز على تنويع المحفظة الاستثمارية وإدارة المخاطر بشكل فعّال، حيث حقق الصندوق معدل عائد استثماري بلغ 6% في عام 2024، متجاوزًا المستهدف المخطط له والبالغ 5.5%، مما يعكس كفاءة الإدارة وقدرتها على تعزيز الموارد المالية، جنبا إلى المراجعة الدورية للمعايير الاكتوارية، والتي تضمن تقييمًا مستمرًا للمخاطر المالية والالتزامات المستقبلية، مما يسمح باتخاذ الإجراءات اللازمة لضبط التوازن المالي بين الإيرادات والنفقات، وأخيرا آليات إدارة متكاملة تضمن إدخال الفئات الجديدة، مثل الأشخاص ذوي الإعاقة، في النظام التأميني دون الإخلال بمبدأ الاستدامة، من خلال دراسة دقيقة للتكاليف والعوائد المرتبطة بهذه الفئات، وهذه الإجراءات تعكس حرص الصندوق على المحافظة على توازنه المالي، وضمان استمرارية الدعم والرعاية للمستفيدين عبر الأجيال.
شروط الاستحقاق
وبينت التمتمية أن القرار حدد مجموعة من الشروط الواضحة والدقيقة التي تضمن العدالة في تطبيق أحكام التقاعد المبكر على الأشخاص ذوي الإعاقة، من أبرزها: حصول المؤمّن عليه على بطاقة “شخص ذي إعاقة” صادرة عن وزارة التنمية الاجتماعية، وأن تكون الإعاقة ضمن المستوى الشديد، وفقا للمعايير التي حددتها اللائحة التنفيذية وفقًا للقرار رقم ر/12/2024 بتعديل بعض أحكام اللائحة التنفيذية لقانون الحماية الاجتماعية، وتشمل هذه الحالات: اضطراب طيف التوحد، متلازمة داون، الإعاقة الذهنية (التي تكون فيها درجة الذكاء أقل من 70 درجة)، الإعاقة البصرية (بمعدل 2/60 فأقل مع المعينات الطبية وبعد التصحيح في كلتا العينين)، الإعاقة السمعية (بمعدل 61 ديسيبل فأعلى مع المعينات الطبية وبعد التصحيح في كلتا الأذنين)، والإعاقة الجسدية الشديدة وفقا لنتيجة التقييم المبني على أداء الوظائف، وهذه المعايير تضمن توجيه الدعم لمن يستحقه فعليا، وتحقق التوازن بين توفير الحقوق اللازمة للأشخاص ذوي الإعاقة وضمان تطبيق العدالة بشكل دقيق وشفاف.
طلب التقاعد المبكر
وأكدت أن التقدم لطلب التقاعد المبكر سيكون متاحا من خلال منافذ الخدمة التابعة لصندوق الحماية الاجتماعية، ويعمل بالقرار من 1 سبتمبر 2025م، وستمر الطلبات عبر مسار إداري وفني متكامل يبدأ بالتحقق من استيفاء المعايير الأساسية والاشتراطات المطلوبة، وانتهاءً بقرار صرف المعاش.. مضيفة: إننا في صندوق الحماية الاجتماعية نؤمن بأن العدالة لا تكتمل إلا حين تشمل الجميع، وأن كرامة الإنسان لا ينبغي أن تكون مشـروطة بقدراته، بل مكفولة لذاته، وأن هذا القرار ليس مجرد إجراء إداري، بل هو ترجمة حقيقية لإيمان الدولة العميق بأن رفاه الإنسان -أيًّا كانت ظروفه- هو جوهر التنمية وغايتها، وحقٌ لا يُستثنى منه أحد.
عمان