ربّت أبناءها بلغة الإشارة».. رحلة عطاء «الأم الصمّاء»

سنابل الأمل/متابعات
أنامل متحركة كانت كافية للتواصل مع أبناءها الصغار، التي حُرمت من سماع  ضحكاتهم وصرخاتهم، لكنها كانت تشعر بفرحهم وحزنهم دون الحاجة لسماع نبرة صوتهم لتصبح لغة الأنامل اقوى من لغة الكلام.

الأم ليست مجرد كلمة تقال أو وصف يُسطر، فجميع أمهاتنا وضعت الجنة تحت أقدامهن لما يقمن به من دور عظيم في المجتمع وتحملهم مشقة وعناء تربية الأبناء، فماذا عن الأم التي ولدت بإعاقة ؟ زادتها من مشقة الأمومة وكيف تصبح هي قصة حياة ونبع عطاء لا ينضب وشعلة أمل لا ينطفئ، لتخبر المجتمع أن الإعاقة لا تسكن الأجساد، بل فقط العقول التي تقبل بالهزيمة.

بطلة حكايتنا هي «أم صمّاء» ذللت العوائق وجعلتها مجرد أبواب نحو طرق جديدة قامت بتربية أبناءها   على الحب والإصرار، والإيمان وعلمتهم كيف يتغلبون على أي تحدٍ.

وأجرت «بوابة أخبار اليوم» معايشة مع أحد الأمهات من ضعاف السمع، لتنقل لنا كيف كانت تجربتها فى رحلة الأمومة المليئة بالمشقة، ساعدتنا ابنتها الثلاثينية في أن تكون حلقة الوصل بيننا وترجمة الحديث بـ «لغة الإشارة».

راجية عبد المنعم 68 عاماً، أم صمّاء منذ طفولتها، ضعف السمع جعلها في عالم صامت لكنه مليء بالإصرار والتحديات بالرغم من إعاقتها السمعية، لم تكن أبداً ترى نفسها أقل قدرة من الآخرين، بل كانت تمتلك عزيمة لا تُقهر.

عندما أصبحت أماً لثلاثة أطفال، بدأت رحلة جديدة ومليئة بالتحديات. كيف يمكنها التواصل معهم وتربيتهم بطريقة تُشعرهم بالحب والفهم؟ هنا ولدت فكرتها الاستثنائية: تعليمهم لغة الإشارة.

◄ دور الأسرة

نشأت «راجية» فى أسرة سوية وكانت هى الداعم الأول لها، فاتخذت الأسرة على عاتقها بألا تشعر الصغيرة بأنها مختلفة عن مثيلها من الأطفال، لذا قرروا إلحاقها بإحدى المدارس الداخلى الخاصة لتعليم ذوي الإعاقة السمعية.

في عام 2008 صدقت مصر على الاتفاقية الدولية لذوي الهمم، وأصبح هناك القانون رقم 10 لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لسنة 2018، وأصبح هناك اعتراف بلغة الإشارة كلغة رسمية للأصم، وتم تعديل المسمى من الصُم والبُكم لـ «ذوي الإعاقة السمعية» أو «الصم وضعاف السمع‌» لانه قادر على التحدث بلغة وهي لغة الإشارة.

ساهمت المدرسة والأسرة على ذرع بذرة الثقة فى أعماقها لتشعر أنها مختلفة عن أغلب أفراد مجتمعها ولكنها ليست الوحيدة فهناك من يواجه نفس إعاقتها، لذا قررت ألا تستسلم لقيود الإعاقة، وألا تجعل منها حاجزاً بينها وبين الحياة. كانت ترى أن الصوت ليس الطريق الوحيد للتواصل، وأن القلوب قادرة على الحديث بلغة أعمق وأصدق.

نشأت قصة حب بينها وبين زوجها أحمد سيد، عندما كانت فى الحادية عشر من عُمرها، فكان طالباً معها بنفس الصف الدراسي، لم يكن الأب فى البداية من ضعاف السمع لكنه أُصيب بمرض الحُمى الشوكية فى صغره، ما أدى لإصابته بضعف في العصب السمعي.

قررا أن يتوجا قصة حبهم بالزواج الأبدي، وتقدم لخطبتها وهي في الرابعة عشر، ليتم عقد قرانهم بعد الخطبة بخمس سنوات وتدخل عش الزوجية وهي في التاسعة عشر.

◄ فرحة ممزوجة بالخوف

رُزقت الحاجة «راجية» بأول طفل «محمد» عند تمامها العشرون عاماً، وكانت فرحة ممزوجة بالخوف بأن يصبح الصغير من أطفال الصُم، ودارت فى نفسها تساؤلات فكيف لها أن تكون الأم التي يحتاجها أبناؤها رغم إعاقتها؟ لكنها سرعان ما حولت هذا الخوف إلى قوة دافعة، لذا قررت أن تسكن فى نفس منزل أبيها «بيت العيلة» ليكن الصغير بالقرب من جدته وخالته ليتعلم منهم لغة الكلام.

وبالفعل تعلم النطق ليعبر عما يريده بالكلام، وزالت مخاوف الأبوين من أن يورث أبنهم إعاقتهم، وبالتزامن تعلم لغة الإشارة وأصبح هو من يتولى الرد على الهاتف المنزلي ويخبر والديه بتفاصيل المكالمة ليتولى مهام توصيل ردهم وغيرها من المهام الأخرى.

◄ سماع بكاء الرضيع

كان الأب يرتدي سماعة عند النوم ليستيقظ في حال سماع صرخات الصغير، وبعد ذلك أصبح الأخ الأكبر هو من يتولى مهام استيقاظ الأم فى حالة سمع صراخ شقيقه الأصغر «هشام».

تجددت مشاعر الخوف لديها بعد عامين من إنجاب طفلتها الأصغر «أية» بسبب تأخرها فى الاستجابة للأصوات والنطق، ولكن عند الذهاب للطبيب طمأنها بأنها جيدة وأن هناك فروق فردية بين الأطفال فى الاستجابة والنطق.

اتخذت الحاجة «راجية» قرارًا بإهداء أطفالها الثلاثة «محمد وهشام وأية» لغة قد لا يعرفها الكثيرون بدأت رحلة التعلم بجد واجتهاد، وعلّمت أطفالها لغة الإشارة منذ الصغر. سرعان ما تحول التواصل بينهم إلى نوع خاص من السحر، حيث كانت لغة الإشارة ليست فقط وسيلة للتفاهم، بل جسراً عاطفياً متيناً بينهم.

كانت لياليها مليئة بالتعب، لتعلمهم الإشارة بنفسها وتبتكر طرقًا لجعلها ممتعة لصغارها. كانت تعبر عن الحب بحركات يديها، وعن الحنان بنظرات عينيها.تحوّل البيت إلى مسرح من الإشارات المحملة بالضحك، التفاهم، والاحتواء.

◄المعوقات

سرعان ما انطفأت شعلة الحماس بداخل «راجية» بعد وفاة زوجها، لتشعر لأول مرة بأنها وحيدة من بعده، وتائهه  تعبر راجية عن مشاعرها حينها بلغة الأشارة لتقول «حسيت بالضياع» لا تعرف ماذا تفعل مع إعاقتها بثلاثة أطفال، أثقلت وفاته كاهلها ورغم أنها كانت تبلغ من العمر 38 عاماً إلا أنها شعرت أنها أصبحت صاحبة مائة عام بسبب الحزن الشديد على رفيق عمرها.

وهنا اتخذت الأسرة على عاتقها بأن تشد من أذرها ويخبروها أنها شخصية قوية وتتحدى الصعاب وأنها سوف تقوم من هذه المحنة وستصبح شخصيتها أقوى وقادرة على استكمال التحدى من أجل صغارها.

◄ حرف يدوية

تغلبت «راجية» على إحساس الفقد بتعلم حرف يدوية فاستطاعت أن تُعلم نفسها من خلال الإنترنت، إجادة شغل المكرمية وتطريز اللوحات وحالياً أصبحت تنمى مهارتها فى تعلم التطريز على القماش.

ساعدت «أية» الابنة الأصغر والدتها فى جلب الخيوط اللازمة لعمل شغل المكرمية، فكانت تريها أمها صورة الخيط ولونه على الهاتف، وتتولى هي رحلة البحث عن الخيط المناسب.

لا تزال «راجية» تمد يديها لتزرع الأمل أينما وجدت روحًا محتاجة فأحبت زراعة النباتات ووجدت من زراعتها حياة اخرى، تهتم بحديقتها يومياً وتحافظ بانتظام على مواعيد الري، وكأنها تستمد منهم الطاقة والحيوية.

◄ المنع من القيادة

شعرت «راجية» بغصة حين علمت بقرار منعها من القيادة رغم أنها تمارس القيادة منذ 35 عاماً، وكانت تعتمد على سيارتها الخاصة فى قضاء أغلب «المشاوير» فهى الآن لا تستطيع التحرك بدون القيادة، وإذا استقلت المواصلات العامة أو الخاصة لا تجد أحد يفهم لغة الإشارة، فهى كانت تتولى مهام توصيل الأطفال للمدرسة وكذلك ذهابهم للطبيب أوقات الطوارئ في منتصف الليل.

تقول «أيه»: «ماما بتعرف تسوق كويس وأحسن منّي بكتير، وقدرتها على التركيز أعلى، ولم نسمع من قبل عن ارتكاب أحد من ضعاف السمع حادث مروري، فقد منحهم الله قدرة فائقة على التركيز مقابل ضعف السمع، أصبحت الآن لا تستطيع الذهاب لأختها أو أصدقائها بسبب قرار منع القيادة لضعاف السمع».

◄ شيف بلغة الإشارة

تعلمت «أية» الابنة الأصغر قيم الصبر، القوة، والإصرار. وأخذت على عاتقها  نشر رسالة أن الإعاقة ليست نهاية الطريق، بل هي بداية لرحلة مليئة بالإبداع والإلهام.

ساعدها إتقانها للغة الإشارة أن تساعد العديد من ضعاف السمع في اكتشاف القوة الكامنة في قلوبهم، وأصبحت «شيف أون لاين» تقدم وجبات على قناة اليوتيوب بـ«لغة الإشارة».

وذكرت «أية»: «لغة الإشارة زيها زي أي لغة سهل تعلمها، ونحن كأطفال نشأنا عليها وأتقناها عند 4 سنوات مثلها مثل لغة الكلام، والطفل سهل يتعلم أى حاجة الأم بتعودوا عليها».

Comments (0)
Add Comment