سنابل الأمل/ متابعات
“حواس”؛ مبادرة إنسانية تعيد الاعتبار لحق يبدو بسيطا في ظاهره، لكنه عميق في أثره: حق المكفوفين في المشاهدة. لا تكتفي هذه المبادرة بإيصال الصوت، بل تعيد بناء المشهد في وجدان من لا يرى؛ تزرع الحكاية في العتمة، وتنسج من الصمت تفاصيل تنبض بالحياة.
تقوم “حواس” على فكرة بسيطة وعميقة في آن؛ ألا يحرم الكفيف من متعة مشاهدة فيلم أو متابعة مسلسل أو الغوص في قصة، فقط لأنه لا يرى. إنها مبادرة تحاكي الذكاء العاطفي، تترجم الانفعالات، وتحيي السرد ليصبح حيا أمام من اعتاد العيش في الظل.
تقول مؤسسة المبادرة أسيل شقرة، في حديثها لـ “الغد”، إن حبها لكل ما هو إنساني وصادق جعلها تأخذ فكرة “حواس” على محمل الجد، وتتمسك بها رغم كل التحديات. آمنت بها، واحتضنتها كما لو كانت جزءا منها، خاصة بعدما لم تجد في المحتوى العربي ما يشبهها. أحبت الفكرة لأنها لمست شيئا عميقا بداخلها.
–مظلة تحتضن المكفوفين
تقدم هذه الخدمة، كما توضح أسيل، بأسلوب إنساني دافئ، بعيدا عن الجفاف التقني؛ فالمعلق على الأحداث ليس مجرد راو، بل وسيط بين عالمين: أحدهما مرئي، والآخر محسوس.
وتلفت إلى أن الهدف من “حواس” هو تمكين المكفوفين وخصوصا الأطفال، من دخول صالات السينما دون عوائق، وأن يكونوا قادرين على مشاركة عائلاتهم الجلسات اليومية أمام التلفاز، ما يقلل من شعورهم بالاختلاف والعزلة.
تنطلق المبادرة مبدئيا مع الأطفال من عمر 6 إلى 15 عاما، لكن الطموح، كما تقول أسيل، أن تتوسع لتشمل جميع الفئات، بما فيهم الصم. ولهذا اختير لها اسم “حواس”، لتكون مظلة تحتضن كل أشكال الإعاقة الحسية.
إيمانها بالمشروع ساعدها على الثبات، حتى وإن كان الطريق صعبا. لم تبال أسيل بما يقوله الآخرون، خصوصا أولئك الذين اعتبروا أن الفكرة لا تستحق الدعم، انطلاقا من اعتقادهم أن الكفيف متصالح مع فكرة أنه لا يرى، وبالتالي لا يعنيه أن يشاهد التلفاز.
لكن ما توضحه أسيل أن هذا الاعتقاد غير صحيح؛ فالكفيف قادر على متابعة المسلسلات والأفلام والقصص ويهتم بها كثيرا، رغم العوائق المرتبطة بالصورة والمشاهد الصامتة والتفاصيل الصغيرة التي تعتمد على البصر.
تغذية الحواس بوصف دقيق
تؤمن أسيل أن الكفيف يمتلك خيالا واسعا، ولهذا تسعى من خلال “حواس” إلى استكمال الصورة لهم، وتغذية حواسهم بوصف دقيق يمكنهم من الاستمتاع ويجعلهم مشاهدين حقيقيين يتابعون الأحداث لحظة بلحظة ويتفاعلون معها باهتمام.
لقد غيرت مبادرة “حواس”، حياة المكفوفين، ليس فقط عبر تقديم خدمة تقنية، بل بإعادة تعريف الرؤية نفسها؛ فالشاشة لم تعد حكرا على المبصرين، بل صارت مساحة مشتركة، نافذة مفتوحة للجميع، حتى لمن لم يرَ الضوء يوما أو فقد بصره في منتصف الطريق.
“حواس” لم تُشغل فقط آذان المكفوفين، بل أيقظت فيهم أعينا داخلية تلتقط المشهد بالبصيرة، وتُحيي التفاصيل عبر الصوت. فالوصف الصوتي الذي تقدمه هو لغة جديدة تعيد بناء الصورة في خيال المستمع بأسلوب أدبي، وبعمق إنساني يتجاوز الملامح والألوان، ليصل إلى المشاعر باحتراف ودفء.
وتشير أسيل إلى أن “حواس” منحت الأطفال المكفوفين حقا بسيطا كان مسلوبا: حق التفرج، الضحك في اللحظة المناسبة، البكاء عند مشهد مؤثر، والتوتر في مشاهد المغامرة.
– فريق تطوعي من ذوي الإعاقة البصرية
وعن الفريق التطوعي الذي يساعدها، توضح أسيل أنهم مجموعة من طلبة الجامعات من ذوي الإعاقة البصرية، إضافة إلى مدققة لغوية تقوم بتنقيح النصوص قبل تسجيلها. وتقول إن عملها مع المكفوفين قربها منهم أكثر، وعرّفها على مواهبهم، خاصة أن العديد منهم يمتلك صوتا إعلاميا مميزا يوظف في الإعلانات والمحتوى الصوتي.
أما عن طبيعة العمل في “حواس”، فتعتمد على اختيار مسلسل مناسب للطفل الكفيف والبيئة التي يعيش فيها، ليحقق له الفائدة ويُتيح له الاستمتاع مع أسرته.
حاليا، تشتغل أسيل على مسلسل “كليلة ودمنة”، حيث تقوم أولا باختيار الحلقة ومشاهدتها، ثم تكتب وصفا دقيقا لكل مشهد يحتاج إلى شرح، وترسله إلى التدقيق اللغوي، ثم تسجل المادة بصوتها، وتخضعها للمونتاج.
وقبل نشرها على قناة المبادرة في “يوتيوب”، تضعها بين يدي الفريق من المكفوفين لأنهم الأقدر على تقييم المحتوى ومعرفة ما يحتاجونه حقا للاندماج بالمجتمع والتفاعل معه.
وهكذا، تصبح القصة ملكا للكفيف أيضا، يراها بطريقته، يتخيلها بحرية، ويبني لها صورا خاصة به، ربما أجمل حتى من الصور الحقيقية.
نشر المبادرة على نطاق أوسع
الهم الأكبر بالنسبة لأسيل اليوم هو نشر المبادرة على نطاق أوسع، لتصبح معروفة أكثر وتصل إلى جميع الأطفال المكفوفين في الوطن العربي. لذلك، تركز جهودها على المشاركة في كل المسابقات التي يمكن أن تدعم “حواس”، خصوصا تلك التي تعنى بالمشاريع الريادية التطوعية، إيمانا منها بأن ذلك سيساهم في انتشار المبادرة وتعزيز قوتها، وبالتالي جذب الدعم الكافي من الجهات الحكومية أو حتى الدولية، لتستمر وتتطور بشكل أكبر.
وتطمح أسيل لإضافة منتج جديد ضمن المبادرة، يتمثل في توفير قصص مطبوعة بطريقة “برايل” إلى جانب الخط العادي، ليتمكن الأهل من متابعة أبنائهم وتعليمهم اللغة العربية بطريقة صحيحة. كما تتضمن هذه القصص شخصيات بارزة الملامح، يمكن للطفل الكفيف لمسها والتعرف عليها بدقة، مما يساعده على تخيلها، إلى جانب نسخة صوتية للقصة تسهم في تسهيل المتابعة على الأمهات العاملات.
وتشير إلى أن المبادرة حصلت حتى الآن على عدة جوائز، إلا أن الجائزة الأهم كانت عالمية، من المجلس العربي لشباب العالم، والمتخصصة في المبادرات التطوعية. ولهذا، تشعر أسيل اليوم بسعادة كبيرة، لأن “حواس” بدأت ترى النور، وتدعى للمشاركة في مسابقات جديدة، وهو ما تعتبره دليلا واضحا على أهمية ما تقدمه.
التأثير في حياة أطفال مكفوفين
أما الداعم الأول لمشروعها، كما تؤكد، فكان والدها، الذي شجعها وكان سندها، لتكون أول من ابتكر هذه الفكرة في الوطن العربي. ورغم التحديات التي واجهتها المبادرة في بداياتها، إلا أن ثقتها الكبيرة بما تقوم به كانت صمام الأمان الذي مكنها من الاستمرار، والنجاح، والتأثير في حياة الأطفال المكفوفين. ولهذا، لم تضعف أو تيأس، رغم الرفض الذي صادفها في بداية الطريق.
ومن بين طموحاتها الكثيرة، تسعى أسيل لتنظيم أكبر قاعة سينما تجمع الأشخاص المكفوفين من مختلف الأعمار، ليعيشوا الأجواء السينمائية بكل عدالة ومتعة. كما تشتغل على تأسيس أول مركز ترفيهي وتعليمي مخصص لذوي الإعاقة، يتيح لهم مساحة كافية لإبراز مواهبهم من خلال أنشطة متنوعة.
أسيل لا تنوي التوقف عند هذا الحد؛ فهي تجتهد بكل ما لديها من طاقة وحب وإنسانية لإنتاج أفلام ومسلسلات تحت اسم “مبادرة حواس”، بهدف الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص ذوي الإعاقة، وإثراء المحتوى العربي بكل ما هو متنوع وجديد.
وصف دقيق لمشاهد الفيلم
لقد نقلت “حواس” المكفوفين من خانة الاستثناء إلى خانة الحق؛ أعادت لهم جزءا من طفولتهم التي ربما لم يعيشوها، وأحلاما ظنوا أنها بعيدة المنال.
في جوهرها، لم تكن “حواس” مشروعا للمشاهدة فقط، بل مشروعا للمساواة والمشاركة والاندماج الكامل، الذي لا يقصي أحدا من بهجة الحياة.
عندما يستمع الكفيف من خلال “حواس” إلى وصف دقيق لمشهد في فيلم أو قصة، لا يتلقى مجرد معلومات، بل يعيش اللحظة كما هي، يتنقل بين وجوه الممثلين، يقرأ تعابيرهم، ويستشعر انفعالاتهم.
وفي النهاية، تثبت “حواس” كرؤية إنسانية أن كونك كفيفا لا يعني أبدا أنك غائب، بل لك كامل الحق في أن تكون مشاهدا حاضرا مستمتعا، عبر منحك المفاتيح المناسبة لقراءة المشهد من الداخل، وفتح نوافذ جديدة على هذا العالم.
الغد