سنابل الأمل / متابعات
يوثق التحقيق أنماط الاحتيال على نظام المساعدات البريطاني، عبر استغلال ثغرات لنيل مبالغ وامتيازات مخصصة لذوي الإعاقة، بما كبد الدولة 6.5 مليارات جنيه إسترليني في عام واحد، فضلاً عن خلق فجوة تمويلية تقوّض آليات الرعاية
– عدل الأربعيني أبو فادي وضع البطاقة الزرقاء المميزة لـ”ذوي الإعاقة” حتى تبدو أوضح من وراء زجاج سيارته، تلافياً لنيل مخالفة ركنها في المواقف المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة، بمكان مجاور لحديقة عامة في مدينة مانشستر.
وحصل الرجل الذي طلب تعريفه بكنيته نظراً لمخالفته القانون، على إقامته في المملكة المتحدة، بصفته Carer أو راع لأبنائه القصر، ما يتيح له التمتع بالإعانات الاجتماعية، ومن بينها البطاقة التي نالها بعدما تقدم بتقارير تفيد بأنه مصاب ألم مزمن بالظهر، إلا أن هذه الحالة المرضية لا تتسق مع حركته السلسة، فقد حمل بمفرده الأغراض الثقيلة وجهز المكان بسرعة حتى يلعب كرة القدم مع أبنائه الثلاثة.
وعند سؤاله عن هذا التناقض، أوضح أبو فادي، في حديث لمعد التحقيق الذي يعرفه مسبقاً، أنه حصل على البطاقة عبر مكتب العمل والتقاعد الحكومي، بمساعدة من سمسار دفع له 400 جنيه إسترليني فكان أن عبّأ الطلب وأرفقه بتقارير طبية ثم تقدم به، لتستغرق المعاملة أربعة أشهر، قائلًا: “اليوم أسكن منزلًا تابعًا للبلدية، ومعاشي يشمل كل الامتيازات المالية، وزوجتي تتقاضى راتباً شهرياً لرعايتي”.
6.5 مليارات جنيه إسترليني خسائر لندن بسبب الاحتيال
وقائع قصة أبو فادي ليست فريدة، إذ تتشابه مع تجارب خمسة متحايلين آخرين على نظام المساعدات (Benefit System) وثق “العربي الجديد” شهاداتهم، ورغم غياب تقديرات رسمية لأعدادهم، لكن الأرقام الصادرة عن وزارة العمل في يونيو/حزيران 2025 بعنوان “الاحتيال والخطأ في نظام المساعدات للسنة المالية 2025/2024″، كشفت عن “بلوغ المدفوعات الزائدة 6.5 مليارات جنيه بسبب الاحتيال، و2.7 مليار جنيه نتيجة أخطاء المطالبين وملياراً آخر بسبب أخطاء الموظفين الحكوميين، بينما شهد العام المالي السابق 2024/2023 مدفوعات زائدة بقيمة 7.3 مليارات جنيه بسبب الاحتيال و1.6 مليار جنيه بسبب أخطاء المطالبين و0.8 مليار جنيه بسبب أخطاء الموظفين”.
كم تبلغ قيمة المساعدات الاجتماعية؟
عن طريق وزارة العمل والتقاعد تقدم لندن مساعدات لحاملي “بطاقة الإعاقة” تنقسم إلى مسارين أساسيين: الأول عبارة عن مخصصات ذوي الاحتياجات الخاصة مضافة إلى مساعدات “الائتمان الشامل” (Universal Credit)، وهو نظام دعم مالي موجّه للعاطلين من العمل ومنخفضي الدخل لتغطية تكاليف المعيشة، فيحصلون على معونة شهرية بقيمة 423 جنيهاً، ينالها من يثبت عجزه الصحي عن العمل، مع إعفائه من شرط البحث الإلزامي عن عمل لاستمرار تلقيها، بالإضافة إلى تعيين أحد أفراد العائلة “مقدم رعاية” بأجر شهري أساسي، هو 201 جنيه، زائدًا 83 جنيهًا أسبوعيًا بدل عمل لقاء رعاية الشخص المعوَّق.
النوع الثاني هو الأكثر شيوعاً، ويسمى مدفوعات الاستقلال الشخصي (Personal Independent Payment- PIP)، وتراوح بين 410 و750 جنيهًا شهريًا بحسب درجة الإعاقة، ويحصل المستفيد معها على بطاقة تجنبه غرامة الصف بمكان محظور، بالإضافة إلى مواقف مجانية أو مخفضة بعدة بلديات، بجانب الاشتراك ببرنامج “دعم التنقل” (Motability scheme)، كذلك يحصل على تكاليف تأجير سيارات بعقود تمتد لثلاث سنوات تشمل الصيانة والتأمين والضرائب، ما يفتح أمام المستفيدين باقة مساعدات تصل إلى نحو 1700 جنيه شهريًا، أي ما يقارب الحد الأدنى للأجور (1953 جنيهًا/40 ساعة عمل أسبوعية)، فضلًا عن أي بدلات إضافية مرتبطة بالسكن أو العمل أو الأطفال
وثائق مثلث حلايب…أسرار النزاع المصري السوداني في الأرشيف البريطاني
استغلال ثغرات النظام
لم يخف أربعة من المتورطين في الاحتيال على نظام المساعدات الاجتماعية، استعانتهم بسماسرة يعرضون خدماتهم عبر مجموعات “فيسبوك” لقاء مبالغ مالية بين 150 و500 جنيه، ومن خلال التواصل معهم، رصد معد التحقيق نحو مائة منشور يعرض أصحابها “تعبئة كل الطلبات الحكومية، ومن بينها طلبات بطاقة ذوي الإعاقة” و”المساعدة للحصول على موافقات PIP بأسرع وقت” بالمقابل المذكور نفسه، ما يعكس وجود سوق متنامية للخدمة. ولإثبات آلية عملهم، سأل معد التحقيق خمسة منهم، مدعياً رغبته في تقديم طلب PIP ليوافق اثنان على مساعدته مقابل 500 جنيه، بينما طرح ثلاثة سماسرة عليه طرقًا احتيالية تتعلق بادعاء أعراض مرضية لضمان قبول طلبه.
سماسرة مختصون في تعبئة طلبات مساعدات مضمونة القبول
من بين هؤلاء كان السمسار أبو نعيم (اسم مستعار لمخالفته القانون)، الذي عرض المساعدة في تعبئة الطلب، مدعيًا ضمان قبوله، لانخراطه في هذا المجال منذ عشر سنوات سهّل خلالها حصول عشرات الأشخاص على البطاقات، ونصح بادعاء أعراض نفسية، إذ “تحظى بمعدلات قبول مرتفعة”، وتابع: “تظاهر بمرض نفسي كالقلق أو الرهاب الاجتماعي أو التعرض لنوبات أرق بسبب ذكرى حادث سابق، واطلب من الأطباء أدوية للاكتئاب ولا تتعاطَها، ثم راجع العيادة لاحقًا، وادَّعِ فشل الأدوية، وسيحولونك لعيادة طب نفسي”، مؤكدًا أهمية الادعاء بوجود أفكار انتحارية “فالجهات المعنية تأخذها بجدية”، ويشير إلى نجاعة هذه الأعراض مقارنة بالإصابات الجسدية التي يسهل كشفها بالفحوص المخبرية.
سماسرة يروجون لخدماتهم عبر مجموعات
يتماشى هذا مع التقرير الفصلي لوزارة العمل في إبريل/نيسان 2025 حول مدفوعات الاستقلال الشخصي(PIP)، إذ شكلت طلبات المدعين إصابتهم باعتلالات نفسية كالقلق والاكتئاب 40% من مجموع الطلبات خلال الفترة الممتدة من 2020 حتى 2025. وهو رقم لافت، تقول المحامية البريطانية عراقية الأصل ناديا البزّاز، ما يشي بأن هذه الإدعاءات أكثر أمانًا للمحتالين، لكونها تستلزم جلسات تقييمية تمتد لأشهر ويسهل التلاعب بالأدلة التي تأتي في تقرير المعالج.
يزعم السماسرة ضمان قبول طلبات الإعانة بنسب مرتفعة (العربي الجديد)
وتذهب البزّاز إلى تعاون أطباء مع سماسرة، يحصلون على أموال مقابل تأمين تقارير طبية لحالات مرضية مبالغ فيها، تضيف لـ”العربي الجديد” أنه في بعض الأحيان، يمكن لأشخاص لا يعانون أية مشاكل صحية الحصول عبر هذه العصابات على تقارير طبية تضمن لهم القبول عند تقديم طلباتهم للجهات الحكومية المختصة، التي تكون ملزمة بتصديق التقارير الرسمية الصادرة عن الأطباء، وحتى في الحالات النادرة التي يطلب فيها قسم المساعدات رؤية الشخص الذي يدعي الإصابة، يستطيع المحتالون التمثيل عليهم بسبب غياب آلية واضحة لكشف هذه الادعاءات، يتسق هذا مع شهادة سمسار سمّى نفسه “ريز فاليتنج RHZ Valeting” إذ تحدث عن تفاوت أسعار مقدمي الخدمة وقال إنها تتراوح بين مئة و1500 جنيه إسترليني، وفسرها بقوله: “من يطلب مئة يقوم فقط بترجمة الأسئلة ونقل الإجابات حرفياً، بينما من يتقاضى مبالغ تصل إلى أكثر من 1500 جنيه يقوم بتزوير كامل للطلبات بتعاون مع أطباء يصدرون تقارير طبية مزورة”، أما أمثاله في الوسط، وكان قد طلب 500، فيتقاضون مبالغ معقولة مقابل تعبئة الطلب بطريقة صحيحة لضمان القبول.
لكن أحمد علي، طبيب الطوارئ في أحد المشافي الحكومية (تحفظ على تسميته كونه غير مخوّل بالحديث للصحافة) يؤكد تعقيد مسألة التدقيق في الإعاقة وأن كل حالة تخضع لتقييم فريق مختص سواء في الطب النفسي أو الصحة المهنية لإعطاء تشخيص دقيق لحالة المتقدم بالطلب، مضيفاً: “كوننا أطباء، واجبنا التعامل مع عشرات المرضى يومياً ووضع خطة لتشخيص حالتهم وعلاجهم من دون أي افتراض لاحتمالية التحايل والادعاء”.
ولم توافق هيئة الرعاية الصحية الوطنية البريطانية على طلب “العربي الجديد”، بموجب قانون “حرية تداول المعلومات”، الإفصاح عن صحة الادعاء بتورط أطباء في إصدار تقارير طبية مزورة تمنح بموجبها إعانات مالية لمنتفعين، وبررت رفضها في ردها بأن المادة 12 من القانون “تسمح برفض أي طلب يستغرق الرد عليه أكثر من 18 ساعة أو يكلف أكثر من 450 جنيهاً إسترلينياً” وأنه سيتعين على الهيئة فحص ملفات كامل طاقمها المكون من 13 ألف موظف، ما سيتطلب أكثر من 100 ساعة عمل حسب رد الهيئة.
تحقيق
ازدواجية المعايير البريطانية…تمييز ضد اللاجئين تكشفه أزمة أوكرانيا
رقم قياسي لمتلقي المساعدات
تتوقع الحكومة إنفاق 316.1 مليار جنيه بنسبة 10.6% من الناتج المحلي على برامج الضمان الاجتماعي في ميزانية 2026/2025 منها 73.5 مليار جنيه على “إعانات ذوي الإعاقة”، ويتوازى هذا مع ارتفاع بنسبة 2% في طلبات الإعانة، وتسجيل 210 آلاف طلب جديد خلال الأشهر الثلاثة الأولى من 2025 بحسب الإحصاء الفصلي لوزارة العمل، ولوصول متلقي المساعدات لرقم قياسي تاريخي (4.1 ملايين شخص في 2024). وجراء ذلك تراجع وزارة العمل دوريًا ملفات المستفيدين، وتعيد تقييمها. لكن العمل هذا يفضي إلى زيادة النفقات، لا تقليصها، بينما يؤكد الإحصاء ذاته إقرار زيادة الدعم أو بقائه كما هو بحق 76% من الملفات بعد مراجعتها، بالإضافة إلى زيادة الدعم أو تثبيته بحق 87% من طلبات الإبلاغ عن تراجع الحالة الصحية.
يجعل هذا عشر القوة العاملة من الحاصلين على مزايا بطاقة ذوي الإعاقة، وفق ما يتضح من رد مكتب العمل والتقاعد، على سؤال طرحته في يونيو/حزيران 2025 النائب عن حزب العمال في مدينة بورنموث،
Jessica Toale جيسيكا توالي، حول تنامي المدفوعات الحكومية لذوي الإعاقة، إذ كشفت الجهة المختصة عن الموافقة على 346 ألف طلب PIP لأشخاص تراوح أعمارهم بين 16 و25 عامًا بين أكتوبر/تشرين الأول 2019 وسبتمبر/أيلول 2024، بحسب ما جاء على الموقع الإلكتروني لمجلس العموم.
تراجع الديمقراطيات الغربية [1-2]…خلط بريطاني بين التطرف وحرية التعبير
فاعلون في الاقتصاد الخفي
لا تتوقف أضرار الاحتيال عند استغلال نظام الرعاية الاجتماعية، فادعاء الإعاقة لم يمنع المحتالين من العمل خارج إطار القانون Cash in Hand (مصطلح يعني تقاضي الأتعاب نقدًا وليس بالتحويل البنكي) مثل أبي فادي الحاصل على سيارة حديثة تتكفل الدولة بمصاريف صيانتها وتأمينها، بينما يعمل عليها سائق توصيل لدى مطعم محلي.
يؤدي هذا إلى إدراج التلاعب بالنظام في سياق أوسع يمثل جزءًا من الخسائر الناجمة عن الاقتصاد الخفي البالغ حجمه 10% من الاقتصاد البريطاني، بفعل تورط نحو 8.8% من المشتغلين في العمل خارج إطار القانون، وفق تقرير مصلحة الضرائب في يونيو/حزيران 2023. وتتسبب النسبة المرتفعة هذه بخسائر ضريبية تبلغ 46.8 مليارًا من 876 مليار جنيه هي جملة الالتزامات الضريبية النظرية لعام 2023-2024 بنسبة 5.3% حسب الإحصائية الرسمية الصادرة عن المصلحة في يونيو/حزيران 2025.
خلق ذلك “فجوة تمويلية تقوض منظومة الرعاية وتترجم مباشرة لتنامي عجز الموازنة”، كما يرى المحاسب القانوني في مكتب Strategic Accountants (خاص) البريطاني من أصول أريترية خالد دواء، موضحًا أنه بعد تراجع الحكومة في يونيو/حزيران 2025 عن قرارها بتجميد بعض المساعدات المالية، ستسعى لتعويض الفجوة عبر تغييرات ضريبية تشمل استمرار تجميد حدود الحد الأدنى للدخل السنوي الخاضع للضريبة عند 12 ألفًا و570 جنيهًا لما بعد عام 2028، ما يعني زيادة الأعباء الضريبية على الأفراد، فضلًا عن رفع مساهمة أصحاب الأعمال في نظام التأمينات الوطنية وإلغاء الإعفاء الضريبي على الأرباح الموزعة (إعفاء جزئي من ضريبة أرباح أسهم المساهمين في الشركات)، بجانب تعديل ضريبة الميراث وإلغاء بعض الاستثناءات الضريبية الأخرى.
أدى الضغط لتراجع الحكومة في يونيو/حزيران 2025 عن قرارها بتجميد بعض المساعدات المالية (Getty)
ولمواجهة ذلك، تتوعد لندن المحتالين، إذ يؤكد تعميم حكومي في 2 يوليو/تموز 2025 بعنوان “نستهدف الغشاشين المستفيدين” تفعيل إجراءات تشمل مراقبة تحويلات المستفيدين البنكية، وزيارات منزلية مفاجئة واستخدام كاميرات سرية لرصدهم، مشيرًا إلى “عقوبات تبدأ باسترداد المبالغ المالية والحرمان من أي مساعدات حكومية مستقبلية، مرورًا بمصادرة الأملاك إن وجدت، وصولًا إلى السجن”.
وتمتد عقوبات “قانون الاحتيال Fraud Act 2006” للسماسرة فيواجهون، بحسب البزّاز، السجن والغرامة، وبالنسبة لمن يحملون إقامات مؤقتة “هذه المخالفات تشكّل نقطة سوداء في سجلهم، تؤخر حصولهم على الإقامة الدائمة أو الجنسية أو قد تحرمهم نهائياً منها”، ما تذهب إليه البزاز تؤكده الحكومة التي نشرت عبر موقعها الإلكتروني “دليل متطلبات الشخصية الجيدة” الذي “يحدد إذا كان المتقدم للحصول على الجنسية يستوفي شرط حسن السيرة والسلوك”، ووفق الحكومة، فإنه “عادةً ما يرفض طلب الجنسية إذا حاول الشخص الخداع أو تصرف بشكل غير نزيه في تعاملاته مع الجهات الحكومية، مثل الاحتيال للحصول على منافع مالية أو الوصول غير القانوني إلى خدمات مثل الإسكان أو الرعاية الصحية”.
غير أن البزّاز ترى العقوبات غير كافية للردع وأن الحل بتشديد آليات التدقيق قبل البت في الطلبات، خاصة أن النظام لا يملك آلية حقيقية لكشف مثل هذه الممارسات، فغالباً ما تنكشف الحالات إما عبر التبليغ أو من خلال أخطاء المحتالين أنفسهم، مثل السفر المتكرر أو الغياب لفترات طويلة.