سنابل الأمل / متابعات
من داخل الصف، تبدأ بذور هذا الوعي، فحين يتعامل المعلم مع قضية الإعاقة بوصفها اختلافا إنسانيا يستحق الاحترام والمساندة، فإنه يعيد صياغة المفاهيم في عقول الأطفال والمراهقين. طريقة المعلم في الحديث عن زملاء من ذوي الإعاقة أو طريقة دمجهم في الأنشطة الصفية أو حتى نبرة صوته عند ذكرهم، كلها إشارات تشكل وعي الطلبة من حيث لا يشعرون.
تشكيل وعي الأجيال
تقول المعلمة سارة الكيلاني، في حديثها لـ”الغد”، والتي تعمل منذ أكثر من عشر سنوات في مجال التعليم الأساسي، إن دور المعلم في تشكيل وعي الأجيال تجاه الإعاقة يبدأ من اللغة التي يستخدمها داخل الصف ومن الطريقة التي يقدم بها مفهوم الاختلاف، فالمعلم، برأيها، صانع لثقافة تتشكل في عقول الطلبة منذ الطفولة وتكبر معهم لتصبح جزءا من رؤيتهم للإنسان والمجتمع.
توضح سارة أن الوعي الحقيقي بالإعاقة لا يعني التعاطف السطحي أو الشفقة، بل احترام الفرد كما هو والإيمان بإمكاناته. تقول “عندما أشرح لطلابي أن الاختلاف تنوع إنساني، أرى في عيونهم فهما أعمق للحياة يتجاوز فكرة العطف إلى القبول والعدالة”.
وترى أن الدمج في المدارس هو الطريق الأكثر واقعية لبناء جيل واع بالإعاقة، لأنه يخلق بيئة تعليمية يتشارك فيها الجميع التجربة اليومية نفسها، فيتعلم الطلبة كيف يتواصلون ويتعاونون من دون حواجز.
وبحسب سارة، المعلم لا يستطيع أن يغير العالم دفعة واحدة، لكنه قادر على أن يغير نظرة طفل واحد نحو الآخر المختلف، ومن تلك النظرة تبدأ الحكاية الحقيقية لمجتمع أكثر وعيا وعدلا وإنسانية.
ولأن الطفل يتعلم من سلوك معلمه أكثر مما يتعلم من كلماته، فإن القدوة هنا هي اللغة الأقوى. عندما يرى الطلاب معلمهم يعامل الجميع بعدالة ويصغي لصوت كل طالب باهتمام متساو، تنطبع هذه الممارسات في وعيهم كقيمة راسخة لا تحتاج إلى درس نظري لتفسيرها.
جيل يتقبل الآخر
وعي الأجيال لا يبنى بالمناهج وحدها، بل بالمواقف الصغيرة التي تزرع في الطفل احترام الإنسان في كل حالاته. هكذا فقط يمكن أن نكون جيلا يتقبل الآخر بدافع الفهم العميق لحق الجميع في أن يكونوا كما هم، بحسب المعلمة سارة، مبينة أن الدمج لا يتحقق بقرار إداري فقط، بل بثقافة مدرسية شاملة تبدأ من تدريب المعلمين وتوفير الأدوات التعليمية المناسبة وبناء قناعة مجتمعية بأن المدرسة للجميع من دون استثناء.
وتختم سارة حديثها، بالقول “حين يصبح احترام الاختلاف جزءا من الحياة اليومية بما فيها من تفاصيل، نكون قد بدأنا فعلا بتربية جيل يرى الإنسان قبل أن يرى الإعاقة”، فالدمج ليس مجرد سياسة، بل ممارسات يومية تبدأ من الصف وتنعكس على وعي المجتمع بأكمله.
بناء وتنمية قدرات المعلمين
بدوره، يرى الاختصاصي التربوي الأسري الدكتور عايش نوايسة، أنه لا بد في البداية من بناء قدرات المعلمين في المدارس لتبني التخطيط التعليمي الشامل لمستويات واحتياجات الطلبة كافة، ومنهم الطلبة ذوو الإعاقة، ولا بد من تبني برامج تدريبية تعزز من قدرات المعلمين في التعامل مع الطلبة ذوي الإعاقة، ولا بد أن تكون إلزامية ومستمرة لجميع المعلمين حول أسس التعليم الدامج، وكيفية التعامل مع الفئات المختلفة؛ الإعاقات الجسدية، الحسية، النفسية، الذهنية، العصبية، صعوبات التعلم، والموهوبون.
أيضا، لا بد من التركيز على الكفاءات العملية في جوانب تصميم الأنشطة التعليمية المختلفة، استخدام استراتيجيات تدريس متنوعة (مثل التعليم المتمايز، التعليم متعدد الحواس)، وتعديل طرق التقييم لتناسب احتياجات كل طالب. ويرافق ذلك تعزيز الاتجاهات الإيجابية نحو الطلبة ذوي الإعاقات وصعوبات التعلم والموهوبين.
ووفق نوايسة، تبني برامج تعليمية وأنش
طة في خطط المدارس والمعلمين سينعكس إيجابا على الطلبة ذوي الإعاقة والطلبة الموهبين وعلى التعليم بشكل عام من حيث تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص التعليمية ورفع كفاءة المعلمين في إدارة التنوع داخل الصف، مما يحسن جودة التدريس للجميع وتعزيز الإبداع والابتكار عبر أساليب تدريس متنوعة تراعي أنماط التعلم المختلفة، وتحسين المناخ المدرسي وزيادة التفاعل الإيجابي والتقبل بين الطلبة، وتحسين نتائج التعلم الكلية، لأن التعليم الدامج يركز على الفهم والتطبيق وليس الحفظ، ورفع سمعة المدرسة والمؤسسة التعليمية كمكان إنساني ومتميز تربويا.
ولكي يتمكن المعلمون من تصحيح الصور النمطية والمفاهيم المغلوطة حول الإعاقة لدى الطلبة، لابد من اللجوء إلى التعليم المباشر بحيث يتم تقديم معلومات دقيقة ومبسطة حول أنواع الإعاقات، والتركيز على أن الإعاقة هي جزء من التنوع البشري وليست نقصا شاملا، وفق نوايسة.
قصص ونماذج حقيقية
إلى ذلك، الابتعاد عن مصطلحي “الضعف” أو “العجز” والتركيز على مصطلح “الأشخاص ذوي الإعاقة”، واستخدام قصص ونماذج حقيقية لأشخاص ذوي إعاقة ناجحين ومساهمين في المجتمع لتحدي الصور النمطية عن محدودية القدرات وفتح نقاشات صفية منظمة لمعالجة الأسئلة والمفاهيم الخاطئة التي قد تكون لدى الطلاب، وتوفير مساحة آمنة لطرح التساؤلات من دون خوف من الحكم، فالمعلم هو القدوة الأولى.
وينوه نوايسة إلى أنه ينبغي تمكين الطلاب ذوي الإعاقة من الوصول الكامل للمحتوى والأنشطة، واعتبار ذلك حقا أساسيا وليس منة، يضاف إلى ذلك تقدير جهود وإنجازات كل طالب على حدة، وعدم تصوير الطلاب ذوي الإعاقة كـ”أبطال” لمجرد قيامهم بمهام يومية عادية، ولا كضحايا، ولا شك أن جميع نظم التعليم تطور منهاج التعليم بما يتناسب مع جميع الطلبة وقدراتهم، ومنهم ذوو الإعاقة، من حيث الفكر والتقبل والدور والممارسات التعليمية الإيجابية، وتقبل الطلبة ذوي الإعاقة ومن خلال المواقف التعليمية.
ويؤكد نوايسة ضرورة توظيف الأنشطة التعليمية بطريقة واقعية لزيادة وعي الطلاب بقضايا ذوي الإعاقة، وحتى يتم ترسيخ قيم التنوع والاحترام داخل الغرفة الصفية وتقبلها، لا بد للمعلم من اختيار قصص تركز على إنسانية الشخص وقدراته وكيف تكيف أو تغلب على العقبات، بدلا من التركيز على معاناته. يضاف إلى ذلك دعوة شخصيات ناجحة من ذوي الإعاقة للتحدث مع الطلاب عن مسيرتهم المهنية والأكاديمية، مما يعزز فكرة أن الإعاقة لا تعيق الإنجاز، وإبراز المهارات والمواهب الفريدة للطلاب ذوي الإعاقة لتعريف زملائهم بهم كأشخاص قادرين.
التعامل مع جميع الطلبة بعدالة
وعلى المعلم اختيار لغة الجسد الإيجابية والكلمات المعبرة عند التعامل مع الطلبة ذوي الإعاقة، بحيث يتم التركيز على التعزيز الإيجابي، والابتعاد عن الانتقاد، ولا بد من التعامل مع جميع الطلبة بعدالة حتى لا يشعر ذوو الإعاقة بوجود فروق بينهم وبين الطلبة العاديين، ولا بد على القيادات التعليمية والتربوية استخدام الخطاب الداعم الذي يركز على احترام التنوع ويركز على الإمكانات والجهد ويرسخ المساواة والحقوق بين الجميع، وفق ما يقول نوايسة.
ولا بد للمعلم من ممارسات سلوكيات تعليمية تحد من التنمر من خلال ميثاق سلوك صفي يشرك الطلبة في صياغته ويطبقه بعدالة على جميع الطلبة، ويعكس نموذج المعلم القدوة في كل شيء كون المعلم صاحب السلوك الأقوى والمؤثر، فسلوك المعلم أهم من كلامه، وطريقة تفاعله الجسدي واللفظي والزمني مع الطالب ذي الإعاقة تشكل نموذجا يقلده الطلاب الآخرون.
دعم الزملاء لبعضهم بعضا
ولكي يتعلم الطلبة دعم زملائهم من دون أن يتحول ذلك إلى شفقة، يقول نوايسة إنه يجب أن يقدم الدعم بوصفه جزءا من علاقة الصداقة والتعاون الطبيعي، لا من باب المساعدة العاطفية. ويستطيع المعلم ترسيخ هذا المفهوم من خلال توزيع الأدوار بشكل عادل وتشجيع المساندة المتبادلة بين الطلبة كافة، وتجنب تعيين طالب محدد لمرافقة زميله ذي الإعاقة بشكل دائم، لأن ذلك قد يخلق شعورا بالوصاية أو التمييز.
ولكي يضطلع المعلم بدوره التربوي والإنساني في هذا المجال، لا بد من تزويده بالدعم والتأهيل اللازمين. فالمعلم، وفق نوايسة، يحتاج إلى تدريب متخصص في استراتيجيات التعليم المتمايز وتعديل المناهج وطرق التقييم لتتناسب مع الفروق الفردية، إضافة إلى تزويده بمعرفة أساسية حول أنواع الإعاقات الذهنية والحركية والسمعية والبصرية وكيفية التعامل مع كل منها. كما أن تدريبه على استخدام لغة حساسة ومحايدة يسهم في بناء علاقات إيجابية داخل الصف، ويحد من الصور السلبية أو التحيزات غير المقصودة. ويجب أن يحظى المعلم بدعم نفسي واجتماعي من قبل الاختصاصيين والخبراء، وأن يعمل ضمن فرق دعم طلابية تضم الأسرة والمعلم والاختصاصيين لضمان استجابة متكاملة لاحتياجات الطلبة.
وبهذا، يمثل التعليم الدامج فلسفة إنسانية قبل أن يكون توجها تربويا، إذ يعكس مدى احترام المجتمع لحق كل إنسان في التعلم والمشاركة والكرامة. وعندما يبنى التعليم على أساس احترام التنوع وتمكين جميع الطلبة من دون تمييز، تتحقق العدالة التعليمية، وترتقي جودة التعليم، وتصان القيم الإنسانية في المدرسة والمجتمع معا. فتمكين المعلم في هذا الإطار هو الخطوة الأولى لبناء ثقافة تربوية جديدة، تؤمن بأن الاختلاف ليس ضعفا بل مصدر قوة وغنى للحياة، وأن الدمج ليس استثناء بل هو القاعدة التي يقوم عليها التعليم الحديث.
دور محوري للمعلم في بيئة دامجة
ويشير الاستشاري النفسي الأسري الدكتور أحمد سريوي إلى أن المعلم يلعب دورا محوريا ليس فقط في نقل المعرفة، بل في تشكيل وعي الأجيال وتوجيه نظرتهم الإنسانية والاجتماعية تجاه الآخر، خصوصا الطلبة ذوي الإعاقة، فطريقة تعاطي المعلم مع هذا الملف تنعكس بشكل مباشر على المناخ النفسي للصف بأكمله. والطالب ذو الإعاقة يقرأ صورته الذاتية من عيون من حوله، والمعلم أول من يحدد ملامح هذه الصورة، حين يعامله باحترام وتوقعات واقعية وإيجابية، يتكون لدى الطالب إحساس بالقيمة والقدرة، أما إذا قوبل بالشفقة أو التجاهل، فيتشكل داخله شعور بالنقص والعجز.
كما أن نظرة المعلم لا تمر مرور الكرام، بل تتحول إلى نموذج سلوكي يقلده الطلاب؛ إذا كانت إيجابية وداعمة، سيشعر الجميع بالقبول والانفتاح، أما إذا كانت سلبية أو مشحونة بالتوتر، فإنها تزرع في نفوس الطلاب أفكارا خاطئة عن زملائهم ذوي الإعاقة وتزيد من العزلة الاجتماعية لهم.
ويكون الفرق بين التعاطف والشفقة في النظرة؛ ففي التعاطف يرى الإنسان بكامل قدراته واحتياجاته (وهذا ما يسمى بالتعاطف الإيجابي)، بينما في الشفقة تراه من خلال إعاقته فقط (وهذا ما يسمى بالتعاطف السلبي) ويمكن للمعلم تعزيز التعاطف عبر توعية الطلاب بقصص نجاح حقيقية، وتشجيعهم على التعاون والتكامل، لا على الشفقة، بحسب سريوي.
دعم المعلم النفسي هو حجر الأساس في الدمج الفعال، حين يشعر الطالب بالأمان النفسي والقبول، يزداد تفاعله وثقته، ويصبح أكثر قدرة على المشاركة الأكاديمية والاجتماعية، هذا الدعم يخفف من التوتر ويعزز من فرص النجاح التعليمي والاجتماعي.
إعادة تشكيل المفاهيم
ويرى سريوي أن المعلم يمتلك تأثيرا كبيرا في إعادة تشكيل المفاهيم، ويمكنه تصحيح الصور النمطية عبر النقاش المفتوح، والأنشطة التفاعلية، وإبراز أن الإعاقة لا تعني العجز، بل التنوع في القدرات، هذا الوعي المبكر يخلق جيلا أكثر تقبلا وإنصافا. وكلما كان المعلم أكثر وعيا بالجوانب النفسية، كان الصف أكثر دفئا واحتواء، فالوعي النفسي ينعكس على طريقة التواصل، وتوزيع الانتباه، وتشجيع التنوع، مما يخلق مناخا آمنا يشعر فيه جميع الطلاب، بمن فيهم ذوو الإعاقة، بالانتماء.
ويحذر سريوي من غياب التدريب النفسي، فقد يتعامل المعلم مع الإعاقة بخوف أو حذر مفرط أو حتى تجنب، مما يعمق الفجوة بين الطلاب ويؤثر سلبا على دمجهم. التدريب يزود المعلم بالأدوات النفسية والتربوية اللازمة للتعامل بثقة وإنسانية. ويجب التأكيد أن الاختلاف جزء طبيعي من الحياة، يمكن للمعلم تحويله إلى مصدر للتعلم والنضج. عندما يرى الطلاب أن الاختلاف لا يقلل من القيمة الإنسانية، بل يثري التجربة الجماعية، يزداد التسامح والاحترام المتبادل.
ويمكن للمعلم، بحسب سريوي، أن يعزز ثقة الطالب بنفسه عبر التركيز على نقاط قوته، ومنحه الفرص للمشاركة الفعالة، والاحتفاء بإنجازاته. كل كلمة تشجيع أو نظرة احترام تبني طبقة جديدة من الثقة، وتفتح الباب أمام مستقبل أكاديمي واجتماعي أكثر إشراقا. المعلم ليس مجرد ناقل للمعرفة، بل هو صانع وعي، ومهندس بيئة نفسية واجتماعية متكاملة. عندما يمتلك وعيا نفسيا وتربويا متوازنا، فإنه يزرع في نفوس الطلبة -ذوي الإعاقة وغيرهم- قيم القبول، والتعاطف، والعدالة، فينشأ جيل أكثر وعيا وإنسانية.
أهمية هذه الأدوار تكمن في إحداث تحول في ثقافة المجتمع بشكل عام، فالجيل الذي يتربى على التقبل والمساواة لن يحمل لاحقا صورا نمطية أو مشاعر شفقة تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة، بل سيحمل وعيا يدفعه نحو احترام قدراتهم والمطالبة بحقوقهم.
نبض