وما أثار هذا السؤال هو تصريح الرئيس الأمريكي الذي أشار إلى إمكانية ارتباط استخدام الباراسيتامول (أسيتامينوفين) أثناء الحمل بزيادة خطر الإصابة باضطرابات النمو العصبي مثل التوحد وADHD، مما أثار جدلاً واسعًا في الأوساط الطبية والعامة. هذا التصريح يسلط الضوء على الدراسات العلمية التي تبحث تأثير هذا الدواء، الأكثر شيوعًا لتخفيف الألم والحمى لدى الحوامل، على نمو دماغ الجنين. في هذا المقال، سنستعرض مواقف المنظمات الدولية والدراسات الحديثة لفهم الصورة بشكل أفضل.
ما تقوله منظمة الصحة العالمية (WHO)
تشير منظمة الصحة العالمية (WHO) إلى أنه لا يوجد دليل قاطع يثبت أن الباراسيتامول يسبب التوحد. ووفقًا للمنظمة، فإن اضطرابات طيف التوحد تؤثر على حوالي 62 مليون شخص حول العالم، وأسبابها معقدة ومتعددة وتشمل عوامل وراثية وبيئية. كما لم تظهر الدراسات الكبيرة أي ارتباط ثابت بين استخدام الباراسيتامول أثناء الحمل والتوحد.
وتوصي WHO النساء الحوامل باتباع إرشادات الأطباء واستخدام الأدوية بحذر، خاصة في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل. كما أكدت المنظمة أن اللقاحات لا تسبب التوحد وأن جداول التطعيمات مبنية على أدلة علمية قوية وقد أنقذت ملايين الأرواح حول العالم.
موقف إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)
في 22 سبتمبر 2025، أعلنت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على موقعها الرسمي (FDA) عن بدء عملية تعديل تعليمات الباراسيتامول لتشمل المعلومات المتعلقة بالاحتمال المحتمل لزيادة خطر اضطرابات النمو العصبي مثل التوحد وADHD عند استخدام الدواء أثناء الحمل. وأصدرت FDA خطابًا للأطباء لرفع مستوى الوعي بالمخاطر المحتملة.
وأوضح المفوض مارتن ماكاري أن الهدف هو تمكين الأهل والأطباء من اتخاذ قرارات مبنية على العلم، مع الإشارة إلى أن العلاقة السببية لم تثبت بعد، وأنه لا يزال من الممكن استخدام الدواء عند الحاجة لتجنب المضاعفات الناتجة عن الحمى العالية.
الأدلة البحثية الحديثة
أظهرت دراسة في Icahn School of Medicine أن التعرض للباراسيتامول أثناء الحمل قد يزيد من خطر اضطرابات النمو العصبي مثل التوحد وADHD لدى الأطفال. الدراسة، المنشورة في BMC Environmental Health، استخدمت منهجية Navigation Guide وأكدت أن الدراسات عالية الجودة أظهرت ارتباطًا أقوى. لا يُثبت أن الباراسيتامول يسبب هذه الاضطرابات مباشرة، لكن يُنصح باستخدامه بحذر، بأقل جرعة وأقصر مدة، تحت إشراف طبي، مع مناقشة البدائل مع الطبيب لتجنب مخاطر الألم والحمى على الجنين.
موقف الاتحاد الأوروبي (EMA)
أكدت وكالة الأدوية الأوروبية (EMA) أن الباراسيتامول يمكن استخدامه لتخفيف الألم أو الحمى عند الحاجة أثناء الحمل، وأن البيانات المتاحة لا تثبت وجود خطر على الجنين أو الارتباط باضطرابات النمو العصبي. وتوصي EMA باستخدام أقل جرعة ممكنة ولأقصر فترة زمنية، مع مراقبة طبية دقيقة، وتؤكد على متابعة أي بيانات جديدة لضمان سلامة الأدوية.
الدراسات من جامعة هارفارد
الموقع الرسمي لكلية الصحة العامة في جامعة هارفارد (Harvard T.H. Chan School of Public Health)، وهي واحدة من أبرز المؤسسات الأكاديمية في العالم في مجال الأبحاث الطبية والصحة العامة.
وقد نشر الموقع مؤخرًا دراسة تشير إلى أن استخدام الباراسيتامول (Tylenol) أثناء الحمل قد يرتبط بزيادة خطر الإصابة باضطرابات النمو العصبي مثل التوحد وADHD لدى الأطفال، مع تأكيد الباحثين على أهمية استخدام الدواء فقط عند الضرورة وبإشراف طبي.
مجلة Environmental Health
أجرت دراسة نُشرت في مجلة Environmental Health (المجلد 24، المقالة 56، عام 2025) مراجعة منهجية للأدلة حول علاقة استخدام الباراسيتامول أثناء الحمل بزيادة خطر اضطرابات النمو العصبي مثل التوحد (ASD) وفرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD) لدى الأطفال.
اعتمد الباحثون منهجية الـ Navigation Guide لتحليل 46 دراسة بشرية، مع تقييم كل دراسة من حيث جودة البيانات، الانحياز، وقوة الأدلة. نظراً لاختلاف التصاميم وطرق القياس، تم تلخيص النتائج بشكل نوعي دون إجراء ميتا-تحليل.
أظهرت النتائج أن 27 دراسة وجدت علاقة إيجابية بين التعرض للباراسيتامول أثناء الحمل واضطرابات النمو العصبي، بينما لم تجد 9 دراسات أي ارتباط، وأشارت 4 دراسات إلى تأثير محتمل وقائي. كما تبين أن الدراسات الأعلى جودة كانت أكثر احتمالاً لإظهار العلاقة، خاصة عند الاستخدام المتكرر أو طويل الأمد.
خلصت الدراسة إلى وجود أدلة متسقة تدعم زيادة خطر اضطرابات النمو العصبي مع التعرض للباراسيتامول قبل الولادة، مع توصية بالاقتصار على استخدامه عند الضرورة وتحت إشراف طبي، تطبيقاً لمبدأ الحيطة والحذر لحماية تطور الدماغ لدى الجنين.
الخلاصة
في ضوء هذه التصريحات والتقارير العلمية، يبقى الجدل قائمًا حول العلاقة المحتملة بين الباراسيتامول والتوحد، لكنّ الإجماع بين المنظمات الدولية والهيئات الصحية الكبرى هو أنه لا يوجد دليل قاطع حتى الآن يثبت وجود علاقة سببية مباشرة. ومع ذلك، تتفق جميع الجهات على ضرورة استخدام الباراسيتامول أثناء الحمل بحذر، وبأقل جرعة ممكنة ولأقصر فترة، وتحت إشراف الطبيب.
ويبقى التركيز الأهم على تحقيق التوازن بين فوائد الدواء ومخاطره المحتملة، إلى أن تحسم الأبحاث المستقبلية هذا الجدل بشكل نهائي، لضمان سلامة الأمهات والأطفال على حد سواء.