كتب .. إبراهيم محمد المنيفي.
هل سمعتم بكتيبة كان كل أفرادها من المكفوفين؟ هل قرأتم عن العمليات الاستخباراتية الخطيرة والناجحة والعمليات الفدائية والوطنية التي قامت بها تلك الكتيبة؟!
مرحباً بكم في عالم المكفوفين والثورة.
اغمضوا أعينكم فليس لها قيمة حينم ا تتسع عند رؤية السلطان المستبد أو المستعمر المحتل وترتعد بعدها قامات وهامات، اغمضوا أعينكم فالاستبداد والاستعمار ظلم وظلام يحتاج بصائر لتقارعه أكثر من أبصار تسحرها كثرة الباطل وبهارجه ، المعركة مع الظلام وذاك طريق خبرناه جيداً ومعركتنا معه أزلية فإما أن ننتصر أو ننتصر وليس ثمة من خيار.
يذكر عبد الرحمن الجبرتي في كتابه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” أن الشيخ سليمان الدسوقي الذي كان كفيف البصر، كان شيخاً أزهرياً وناضراً على أوقاف المكفوفين، وأنه كان ذا مال وثروة وقام بعد الاحتلال الفرنسي بتجميع المكفوفين في كتائب سرية خاصة قامت بالكثير من الأعمال العسكرية الهامة مثل: الاستخبارات ونقل أسرار الجيش الفرنسي لأبطال المقاومة مستغلين طبيعة كف البصر في عدم الالتفات لهم من المحتل، كما قام بتأسيس كتيبة عمليات خاصة من المكفوفين غاية في السرية مهمتها رصد ضباط الجيش الفرنسي ومغافلتهم لتنفيذ عشرات الاغتيالات في صفوفهم.
يقول الجبرتي أن نابليون استشاط غضباً من كثرة الاغتيالات مجهولة المصدر إلى أن وشى أحد العملاء بالشيخ سليمان الدسوقي وأنه هو من يقف وراء تلك العمليات البطولية، وكان الدسوقي قد رفض إجماع الكثير من علماء الأزهر في تسليم القاهرة بحجة صون الدماء.
وفي مسرحية “الدودة والثعبان” لعلي أحمد باكثير التي تروي حقبة الحملة الفرنسية على مصر يصور الراوي الأدوار البطولية للشيخ سليمان الدسوقي وكيف كان يقود الثورة بكل اقتدار، إلى أن تم القبض عليه من قبل الفرنسيين، وحينما رأى نابليون بونابرت الشيخ سليمان أعجب بصلابته وإرادته إذ كيف لكفيف أن يتزعم ثورة وعمليات خاصة بتلك الصورة، فأخذ يفاوضه ويغريه بالمناصب والأموال والدسوقي يرفض إلى أن عرض عليه نابليون أن يجعله سلطان على مصر تحت حكم الفرنسيين فتظاهر الشيخ سليمان بالموافقة ومد يده ليعاهد نابليون وفي الحقيقة أن الدسوقي كان يمد يده ليحدد الهدف جيداً، وما إن أمسك بيد نابليون اليمنى حتى هوى عليه بيده اليسرى في صفعة مدوية جعلت نابليون يرى النجوم في عز الظهيرة ، وقال: “هذه ليست يدي بل يد الشعب” . فلم يتردد نابليون في إعدامه وإخفاء جثمانه الذي لا يعرف له مكان حتى اليوم.
لمن يصورون المكفوفين في أعمالهم الدرامية ضعفاء ومساكين وفاقدي حيلة أو مهرجين ودراويش وأنهم دوماً بحاجة لغيرهم وبأن حاجتهم تلك تجعلهم مسلوبين الإرادة مصادرين القرار، توقفوا فالمكفوفين عبر التاريخ أكثر ثورة واتقاداً وعنفوان، بل تكاد تكون ظاهرة فهاتوا لي أي كفيف برز في أي ميدان من الميادين وكان خانعاً أو ذليلاً أو إمعة بل على العكس كل الأسماء التي برزت عبر التاريخ وإلى اليوم ربما يكون القاسم المشترك بينهم التململ من الطغيان والغضب والثورة أو قل الاعتراض وعدم السباحة مع التيار في أضعف الأحوال وهذه لعمري ظاهرة تحتاج إلى توقف ودراسة موضوعية بعيداً عن التحيز والإسقاطات والفرضيات المسبقة التي تفترض عدوانية المكفوفين مثلاً لأنهم لا يبصرون، لا هناك ثمة أسباب نفسية واجتماعية وفلسفية تحتاج إلى توقف.
وغير بعيد ففي اليمن عقب فشل الثورة الدستو رية عام 1948 والإمام أحمد في نشوة الانتصار وفي قمة الغليان والثأر لوالده الذي لقي حتفه على أيدي الثوار وبمجرد سماع اسم (أحمد يا جناة) ترتعد الفرائس والأفئدة يبعث البردوني من سجنه بقصيدة فدائية يوبخ الإمام ويهزئه ويعيره ويقدح في مروءته وفروسيته منها: “لن ترحم الثوار والهُتافا ** هَلا رحمتَ السيفَ والسيافا .** أوما على المقدام يوم النصر أن** يرعى الشجاع ويرحم الخوافا .** أسمعت عن شرف العداوة كي ترى** لخضم تقطيع الرؤوس ضفافا.** سأضل أسألُ أحمداً لا مالكاً** كيف استطبت بأهلك الإجحافا ؟؟!.** بل أن البردوني بعث بقصيدته تلك ضمن ديوان “من أرض بلقيس” في مسابقة عام 1958 فاستبعدها علي الجندي خوفاً على الشاعر فأعاد نشرها في ديوان “جواب العصور” بعد ثورة سبتمبر المباركة.
وغني عن القول ثورية البردوني واعتراضه على أخطاء وحكام ما بعد ثورة سبتمبر وقصائده وكتبه زاخرة بذلك.
ومن ثورية البردوني والفنان محمد البصير الذي كان يهز الساحات بأيقونته “جمهورية ومن قرح يقرح” والتي صارت يرددها الثوار بما تحمله من نفس ثوري وتعبوي ومستوى عالي من التحدي والمواجهة إلى مصر الكنانة مرة أخرى والفنان الظاهرة شيخ إمام عيسى وتوأمه الشاعر أحمد فؤاد نجم، حيث قضى شيخ إمام عيسى مع رفيقه الكثير من سنوات عمره في المعتقلات والسجون ثمناً لصوته العالي في مواجهة السلطة، وقد اهتزت ساحات الوطن العربي بعد عقود بأغاني شيخ إمام عيسى لأنها كانت وستظل تمثل نبض الشعوب وصوتها والمعبرة عنها بصدق وتجرد.
قال الشاعر أحمد فؤاد نجم في إحدى مقابلاته: “كان شيخ إمام صوتي وكنت عينيه” فهل يمكن أن نتكامل مع مجتمعنا العزيز بتلك الثنائية الجميلة ويعيرونا أعينهم لنرى بوضوح وجوه الطغاة وأنصاف الرجال وحاملي المباخر لنهجوهم؟، هل سيحترم المجتمع تضحياتنا ويقدرها بدل السخرية من شكل أعيننا وبعض الحركات النمطية عند بعضنا بسبب قلة التدريب؟ هل سيكف الفنانون والإعلاميون عن تميط صورة الكفيف والنظرة الاستعلائية تجاهنا؟!.
مرة أخرى لسنا سُذج يسهل الضحك علينا وكفى تصويرنا كمهرجين أو تقديمنا مادة للسخرية وجلب المشاهدات.
المكفوفون ليسوا حاشية في سجلات نضالات الشعوب وثوراتها بل نحن متن ونقاط على الحروف لمن أراد أن يكون منصفاً.
ولولا خشيتي أن يطول المقال أكثر لسردت عليكم مواقف المكفوفين وتضحياتهم الثورية من عصور مختلفة، فإذا قرأتم عن أي طاغية فابحثوا عن اسم أي كفيف في عصره فستجدوه رافعاً سبابته، وحينما تجدون الكثير من أرباب الفكر والقلم ينظرون للاستسلام والخنوع ويبشرون بثقافة المنتصر فانظروا ماذا يقول مفكروا المكفوفين وعلمائهم ورموزهم ستجدونهم في وجه التيار غالباً وإن طبلوا فإنهم يفشلون.