ضحايا المرور.. سجناء كراسي متحركة
سنابل الأمل / متابعات
يتنفس كل منا الحياة، ويطمح دائما إلى الأحسن، وإلى تحقيق مزيد من الأحلام، ولكن قد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.. حوادث المرور التي أصبحت مشكلا اجتماعيا، غيرت حياة الملايين من الجزائريين، وكبحت حركتهم وديناميكيتهم وأوقفت طموحات كثيرة بسبب الإعاقة، التي تخلفها هذه الحوادث وبدرجات متفاوتة، فإن نجا الضحايا من الموت فإن مصير الكثير منهم الشلل والمعاناة…وقد تكون ابسط السلوكيات لبعض السائقين، وراء مآسي ضحايا حوادث المرور التي يتسببون فيها، فغمضة عين أو تهور، أو سرعة غير مكبوحة، وتجاوز جنوني، غير مسار حياة أشخاص كانوا ضحايا أو هم أصحاب هذه السلوكيات، ب180 درجة، وتبخرت تلك الأحلام وعلت الحواجز وكثرت العراقيل، ولم يعد هم هؤلاء سوى التغلب على الإعاقة.ليلى، وزهية، وفاتح، ومراد، عينات من ضحايا حوادث المرور، قصوا لـ”الشروق” حكاياتهم مع الإعاقة، فإن اختلفت أزمنة وطرق هذه الحوادث التي تعرضوا لها، إلا أن المأساة واحدة، ومرارة الألم يتجرعها هؤلاء جميعا، ويعرفون كلهم كيف أن العجز الحركي يغير مسار الأحلام والنظرة إلى ذلك الأفق الطامح إلى تحقيق الكثير من المشاريع والنجاحات.ولكن بقليل من الإرادة استطاع بعضهم تحدي الحواجز الأقل علوا، وهذا ما أكدته رئيسة الفيدرالية الجزائرية للأشخاص ذوي الإعاقة، التي كانت وهي طفلة ضحية حادث سير وأصيبت بإعاقة حركية أقعدتها على كرسي متحرك.وقالت معمري، إن الدولة الجزائرية استطاعت أن تذلل الكثير من الصعاب التي تواجه المعاقين، ولكن تبقى بعض النقائص التي جعلت هذه الفئة لا تندمج في المحيط الاجتماعي العام، وتواصل تحقيق أحلامها التي كانت تناشدها قبل الإعاقة.الإعاقة تعزلها عن العائلة لمدة 14 سنة في المستشفىوحكاية زهية مع الإعاقة، خلفها لها حادث دهس بسيارة أحد المتهورين والمجنونين بالسرعة الفائقة أثناء القيادة، قاسية جدا، أنها معاناة ما بعدها معاناة، فهي لم تتمتع بطفولتها كباقي الأطفال، فقد خرجت ذات يوم سنة 1989 بمنطقة هراوة شرق العاصمة، لشراء شيء ما، ولم تكن تدري أن هذا الخروج سيقلب حياتها تماما.وقالت زهية بن علي البالغة الآن من العمر 38سنة، لـ”الشروق”، أن أكثر ما يؤلمها تلك السنوات الطفولية التي قضتها بعيدا عن حنان والديها، بين أحضان مستشفى التأهيل الوظيفي بتقصراين بالعاصمة، منذ كان سنة 5سنوات ولمدة 14سنة كاملة.وكانت مأساة زهية أنها لم تعرف منذ ذلك العمر معنى الحياة العائلية، ولم تتمتع بحنان الأسرة، وعلاوة عن ذلك أن السائق الذي كان يقود سيارة مجنونة ودهسها فأصيبت بإعاقة حركية، لم يدخل السجن إلا لمدة شهر واحد ولم يبال بها بعد ذلك رغم أنه كان سببا في تغيير مسار حياتها منذ الطفولة.
وتعيش اليوم زهية رفقة والدتها المريضة البالغة من العمر 75سنة، وشقيقها المعاق خلقيا، في ظروف قاسية، حيث لا تزال مقعدة على الكرسي المتحرك منذ ذلك الحادث، وتدهورت صحتها بعد أن أصيبت بتعفن على مستوى الجهاز التناسلي.
وقد أكد لها المختصون أن حالتها المرضية ستتطور بسرعة إلى درجة توغل التعفن إلى الأمعاء، الأمر الذي يستدعي إجراء عملية جراحية في الخارج، ولكن ظروفها الاجتماعية والمالية لا تسمح بذلك.وتبقى قصة زهية بن علي عبرة لهؤلاء الذين يقودون السيارات بلا وعي ولا مسؤولية، ويتسببون في إيلام الناس وعذابهم في الحياة.من رجل القيادة إلى حبيس الكرسي المتحركوحوادث المرور التي تقتل معدل 40 شخصا في الأسبوع، حسب معطيات الحماية المدنية، فإنها تخلف المئات من المعاقين حركيا في السنة الواحدة، حيث يعتبر مراد البالغ من العمر 40سنة حاليا، من بين ضحايا التجاوز في الطرق السريعة، ففي سنة 2011، كان متوجها بسيارته السياحية من العاصمة إلى بومرداس، ودخل في مراوغة مرورية مع صاحب شاحنة صغيرة، فانقلبت به المركبة.ومنذ ذلك الحين توقفت تلك الديناميكية التي كان يتميز بها مراد الذي أصيب بإعاقة حركية وعمره 28سنة، خاصة أن وظيفته في قطاع حساس كأحد أعوانه، تحتاج إلى كثير من الحركية والنشاط.وقال لـ ‘الشروق”، وهو يتحسر على وظيفته تلك: “لحظة تدهور في ثوان، غيرت مجرى حياتي وتبخر حلمي الكبير معها، فرغم الصبر والإرادة لكنني اشعر اليوم أنني طائر دون أجنحة”.وكان يعرف مراد قبل حادث المرور الذي أقعده الكرسي، في حيه الشعبي بإحدى بلديات العاصمة، بذلك الشاب الذي لا يكل ولا يمل الحركة والنشاط، ويحب وظيفته ويجتهد لأن يترقى إلى أعلى المناصب، كان يلعب كرة القدم ويمارس الرياضة بالركض في غابة بوشاوي.
ورغم الاهتمام الذي توليه له والدته وزوجته، إلا أن البقاء مقعدا على الكرسي أحال دون تحقيق بعض الرغبات والمطامح التي كانت في أجندة حياته.من حلم البكالوريا إلى مأساة الإعاقة الحركيةولطالما حلمت ليلى بن شيهاب البالغة من العمر حاليا 43 سنة، من أن تتخلص من الكرسي المتحرك الذي ظلت لصيقة به منذ 1998، جراء حادث مرور بقسنطينة، فقد كانت تحضر لامتحان البكالوريا، وتتطلع إلى ما بعد هذه الشهادة، وكلها ديناميكية ولكن يحدث لها ما لم يكن في الحسبان فيتغير المسار.قالت ليلى لـ”الشروق”، “إن سنة 1998 كانت بداية المعاناة، ذهبت في عطلة من برج الكيفان إلى أقاربي بقسنطينة وخرجت رفقة ابن خالي للتنزه وكان يقود السيارة بسرعة جنونية احد الأقارب، فحاول تجاوز إحدى المركبات فانقلبت بنا السيارة وأصبت بكسر في العمود الفقري”.
وتتأسف ليلى، عن حياتها الحالية والتي كانت نتيجة السرعة في القيادة، والتهور الذي لا يحسب حسابه الكثير من السائقين، فأكدت أن والتها اليوم هي من تقوم بخدمتها بعد أن أقعدت على الكرسي المتحرك.ورغم أن ليلى اليوم تحاول تمضية وقتها بقراءة القرآن، والمطالعة، وتصفح مواقع الكترونية ، إلا أن حسب قولها لم تعد تلك الأحلام المرتبطة ببداية النجاح في البكالوريا، سهلة التحقيق حيث مضت السنوات وهي تحلم فقط بالتخلص من كرسي ظل لصيقا بها منذ تلك الحادثة المشؤومة.
فاتح.. “بزناسي” من بلد إلى بلد.. حتى غير الحادث مصيرهوألم “فاتح. س” صاحب الـ 50 سنة، كبير جدا لأنه تاجر تعود السفر جوا إلى تركيا والصين وفرنسا، فأصبح حلمه مثل طائر لا يحط على الأرض إلا قليلا.وفي سنة 2013، كان متوجها إلى ولاية البويرة ليتفاوض حول سلعة مع أحد التجار هناك، وتوقف على حافة الطريق السريع ليتفقد الصندوق الخلفي باحثا عن شيء كان يعتقد أنه نسيه في البيت، وهو يهم بالخروج يفاجأ بسيارة أخرى تصدمه وتبقيه طريحا على الأرض.وأكد فاتح لـ”الشروق”، أنه لم يشعر بنفسه إلا وهو في المستشفى، وكانت الصدمة كبيرة عندما عرف بعدها أنه لم يعد باستطاعته المشي والتحرك على قدميه لأن الحادث تسبب له في إعاقة حركية.
ومنذ ذلك الحين توقفت مشاريع فاتح التجارية، وحلمه بان يصبح رجل أعمال، وبان يستقر في تركيا.وقصة فاتح رغم أنها مؤلمة إلا أنها تعتبر واحدة فقط من عشرات المآسي التي يعيشها جزائريون غيرت حوادث المرور حياتهم، وأدخلتهم في دوامة المعاناة والعلاج بعد أن كان لهم أحلام ومشاريع يودون تحقيقها.الانقطاع عن الحياة الطبيعية أول صدمة لضحايا حوادث المروروحول الموضوع، قال المختص في علم النفس، الدكتور مسعود بن حليمة، أستاذ بجامعة الجزائر 2، أن الإعاقة التي تتسبب فيها حوادث المرور، تعتبر صرخات ألم ومآسي، وهي بداية لحياة أخرى غير مرغوب فيها، حيث أن شدة الحدث والمفاجأة التي يأتي بها، تترك صدمة نفسية، خاصة أن الشخص الذي ينقطع عن الحياة الطبيعية والاندماج العادي في الحياة الاجتماعية، يرفض نفسيا الوضع الجديد وهو ما يصيبه بالإحباط وخيبة الأمل.
وأوضح مسعود بن حليمة، أن حوادث المرور تؤدي إلى تعطيل ضحاياها عن أداء عملهم ونشاطهم بصفة طبيعية، وتتسبب في قصور وإعاقة عن سير الحياة والنشاط الذي تعودوا عليه هؤلاء الضحايا، وكأنهم أضحوا منعزلين عن الألم فجأة وغير مرغوب فيهم من طرف اقرب الناس أليهم لأنهم يشعرون أنهم أصبحوا عالة على الغير، وهو حسبه ما يزيد من حالة العزلة النفسية، والانطواء لديهم.ويرى أن العلاج النفسي بعد الصدمة والانقطاع عن الحياة الطبيعية، أول الخطوات التي يجب أن تنجح مع هؤلاء، لتأتي بعدها الإمكانيات المادية، وتوفير بعض الرعاية والاهتمام من طرف مؤسسات الدولة.
وأشار بن حليمة، أن هناك الكثير من ضحايا حوادث المرور الذين اقعدوا على الكرسي المتحرك، تمكنوا من تخطي وضعهم الجديد وحققوا أحلاما لم يحققها الأصحاء والذين يتحركون بحرية، حيث أن التحفيز والرعاية والمتابعة النفسية كفيلة بتذليل الكثير من الحواجز التي تقف أمام المعاقين حركيا.مطالب بتخصيص منصة رقمية لإحصاء ضحايا حوادث المرورأكد رئيس الأكاديمية الوطنية للسلامة المرورية، والأمن عبر الطرقات، علي شقيان، لـ “الشروق”، أن الأرقام الخاصة بحوادث المرور والتي تكشف عنها الجهات الرسمية، تشير إلى تسجيل ما يفوق 3000 معاق سنويا جراء هذه الحوادث، نسبة 46 بالمائة شباب لا تزيد أعمارهم عن 30 سنة، وهي إحصائيات حسب شقيان، غير دقيقة بالنظر إلى تزايد عدد حوادث المرور واختلاف أسبابها وتنوعها.وقال شقيان إن إدخال الرقمنة للتحكم في المعطيات الخاصة بحوادث المرور أمر ضروري قصد ضبط الإحصائيات سواء المتعلقة بالوفيات أو المصابين أو عدد المعاقين بسبب هذه الحوادث، وبالتالي ايجاد الحلول والتحكم في هذا المشكل بتوفير المتطلبات اللازمة.
ودعا رئيس الأكاديمية الوطنية للسلامة المرورية، والأمن عبر الطرقات، علي شقيان، إلى وضع منصة رقمية خاصة بحوادث المرور ومخلفاتها، على أن تشارك فيها جميع القطاعات المعنية، وأن تستغل هذه المنصة من طرف مختصين وخبراء
الشروق