ذوو الإعاقة في مواجهة سوق الشغل: بين ضعف التكوين ومحدودية الآفاق التشغيلية

0 3

سنابل الأمل / متابعات

فمنذ حادث المرور الذي غير مجرى حياته سنة 2006، أدرك إدريس أن الكرسي الذي يرافقه لن يكون حاجزا أمام أحلامه. تنقل بين مدارس ومراكز نداء ومؤسسات تدريب، باحثا عن مكان يمنحه الفرصة لا الشفقة. وبعد رحلة طويلة من الكفاح، وجد نفسه اليوم بين زملاء يقدرون كفاءته قبل إعاقته.ومع ذلك، لم يخف إدريس قلقه من ضعف إدماج الأشخاص ذوي الإعاقة في سوق الشغل، معتبرا أن نسبة التشغيل الحالية، والمقدّرة بـ2 بالمائة، “لا تعبر عن حجم الطاقات التي يحملها أصحاب الاعاقة، ولا عن إيمان المجتمع بحقهم في العمل بكرامة”.

ورغم أن قصة إدريس تمثل استثناء ملهما، فإن الطريق أمام آلاف غيره ما يزال مليئا بالعقبات. فالكثير من الأشخاص ذوي الإعاقة في تونس يظلون عالقين بين وعود الإدماج وواقع التهميش. فالحواجز لا تقتصر على الأرصفة غير المهيأة أو وسائل النقل غير المكيفة، بل تمتد إلى مكاتب التشغيل، حيث يصطدم الباحثون عن عمل بنظرات الشفقة أحيانا، وبالإقصاء غير المعلن في كثير من الأحيان.

في تونس، يُقدّر عدد الأشخاص ذوي الإعاقة بنحو مليون و373 ألف شخص، أي ما يعادل 12,2 بالمائة من مجموع السكان الذين تفوق أعمارهم خمس سنوات، وفق نتائج التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2024. ويبلغ عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في سنّ النشاط (من 15 إلى 60 سنة) حوالي 579 ألف شخص.

ورغم محدودية الإحصائيات الدقيقة في هذا المجال، يؤكد العديد من الخبراء أن نسبة البطالة في صفوف الأشخاص ذوي الإعاقة تبقى أعلى بكثير من المعدل الوطني، في حين تواجه النساء ذوات الإعاقة شكلاً مضاعفاً من التمييز على أساس الجنس والإعاقة معا، مما يقلص من فرص إدماجهن في سوق الشغل.

ويُرجع هؤلاء الخبراء هذا الوضع إلى ضعف منظومة التكوين المهني من جهة، وقلة فرص التشغيل الملائمة من جهة أخرى.

تكوين مهني لا يتماشى مع متطلبات العصر

ويبقى التكوين الموجه للأشخاص ذوي الإعاقة محدودا من حيث نوعيته وعدد اختصاصاته، وغالبا ما يقدم في مراكز تفتقر إلى التجهيزات الحديثة ولا تواكب التطورات التكنولوجية التي يفرضها سوق الشغل اليوم.

وقال رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، يسري المزاتي، “إن منظومة التكوين المهني الحالية، سواء في المراكز المختصة أو غيرها، لا تواكب متطلبات العصر والتحولات التكنولوجية، رغم أهميتها في فتح آفاق جديدة أمام الأشخاص ذوي الإعاقة”.

واضاف المزاتي، في تصريح ل/وات/ “إن الاختصاصات المتاحة حاليا لا تتجاوز مجالات محدودة على غرار الخياطة والطبخ والخزف والجلد، وهي مجالات تشهد تراجعا في فرص التشغيل، في حين يعبر العديد من الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يتعاملون مع الجمعية عن رغبتهم الملحة في تطوير مهاراتهم لتتلاءم مع متطلبات السوق الجديدة”.

وأضاف أن المشغلين بصفة عامة يفتقرون إلى تكوين كاف في مجال حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، مما يجعل التواصل بين الطرفين صعبا في عديد الحالات، داعيا إلى تطوير الإطار القانوني المنظم لتشغيل الأشخاص ذوي الإعاقة بما يتماشى مع أحكام الفصل 54 من الدستور، وتنقيح القانون التوجيهي عدد 83 لسنة 2005، إلى جانب تكريس الوعي المجتمعي وتشجيع المواطنين على دعم ذوي الإعاقة عبر اقتناء منتجاتهم.

من جانبه، دعا رئيس جمعية التأهيل والإحاطة بالمعاقين عضويا، يوسف حمو، إلى إحداث خلية تفكير تُعنى بإنشاء مراكز تكوين تتناسب مع نوع الإعاقة وتكون قريبة جغرافياً من مراكز الولايات، مؤكدا أن الأشخاص ذوي الإعاقة يطمحون إلى أن يكونوا فاعلين في المجتمع، وهو ما يستوجب تكوينا ناجعا يحسن من فرصهم في الحصول على عمل.

أما رئيس الجمعية التونسية لمساعدة الصم ببن قردان، عبد الحميد الطرابلسي، فقد اوضح أن البرامج التكوينية الموجهة للأشخاص ذوي الإعاقة تنقسم إلى نوعين: الأول تشرف عليه الجمعيات والمنظمات الأهلية ويسند فيه للمتكونين شهادات خبرة وكفاءة، والثاني يتم داخل المراكز المختصة، معتبراً أن كلا النوعين يلبّيان الحاجات الأساسية في هذا المجال.

وتنص الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي صادقت عليها تونس سنة 2008، على تشجيع اكتساب الأشخاص ذوي الإعاقة للخبرات المهنية في سوق العمل المفتوحة، وتعزيز برامج إعادة التأهيل المهني والوظيفي، وضمان الاحتفاظ بالوظائف والعودة إلى العمل.

كما تؤكد الاتفاقية على حظر التمييز على أساس الإعاقة في جميع المسائل المتعلقة بالعمل، بما في ذلك شروط التوظيف والتعيين والاستمرار في العمل والتقدم الوظيفي وظروف العمل الآمنة والصحية، إضافة إلى ضمان المساواة في الأجر عن العمل المتساوي القيمة، والحماية من التحرش، وتمكين الأشخاص ذوي الإعاقة من الانتصاف من المظالم.

آفاق تعليمية متوفرة لذوي الاعاقة تواجه محدودية فرص التشغيل

وترى الأستاذة الجامعية في علم الاجتماع بالمعهد العالي للدراسات التطبيقية في الإنسانيات بزغوان، رانية غويل، أن منظومة التكوين المهني الموجهة للأشخاص ذوي الإعاقة ما تزال مرتبطة أساسا بالجمعيات وتفتقر إلى التجديد، معتبرة أن اليات إدماج هذه الفئة في سوق الشغل ما تزال صعبة للغاية، إضافة إلى ما يواجهونه من صعوبات في الولوج إلى مقرات العمل والتنقل اليومي إليها.

وأوضحت غويل، في تصريح لـ/وات/، أن التمثلات الاجتماعية السائدة لدى عدد من المشغلين سلبية تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة، إذ يُنظر إليهم على أنهم غير قادرين على أداء العمل، وهو ما يضيّق أمامهم فرص الاندماج المهني.

وبينت أن القانون المنصوص عليه بتخصيص نسبة لا تقل عن 2 بالمائة لتشغيل الأشخاص ذوي الإعاقة غير منصف، باعتباره يقتصر على المؤسسات التي تشغل مائة عامل فأكثر، في حين يتكون النسيج الاقتصادي التونسي أساسا من مؤسسات صغرى لا يشملها هذا الامتياز القانوني.

وأضافت غويل أن العديد من الأشخاص ذوي الإعاقة يعيشون وضعيات اجتماعية هشة لا تضمن لهم الاستقلالية المالية، وهو ما يؤدي إلى تأخر سن الزواج أو منعه في بعض الحالات. واعتبرت أن السياسة الاجتماعية الحالية تقتصر على مقاربة الرعاية من خلال تقديم منح اجتماعية، دون السعي إلى إرساء حلول اجتماعية واقتصادية مستدامة تضمن الاندماج الفعلي.

واعتبرت الأستاذة الجامعية أن هذه الظروف مجتمعة تؤدي إلى تبعية تامة للأشخاص ذوي الإعاقة تجاه عائلاتهم، وأن غياب الدعم الأسري قد يفضي في بعض الحالات إلى التشرد. كما أشارت إلى الاستراتيجيات البديلة التي يلجأ إليها بعض ذوي الإعاقة لتحقيق قدر من الاستقلالية المالية، على غرار ممارسة الفن، أو الإمامة بالمساجد قديماً بالنسبة للمكفوفين، أو اللجوء إلى التسول والهجرة غير النظامية.

من جهته، أكد رئيس جمعية “براي للتربية والثقافة”، محمد كمّون، في تصريح لـ/وات/، أن المسارات التعليمية الموجهة للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية متوفرة من حيث التكوين، لكنها لا تفتح آفاقا واسعة للتشغيل بعد التخرّج. وأشار إلى أن تجارب تشغيل المكفوفين في المدارس المدمجة لم تُكلّل بالنجاح، مقابل ضيق فرص التشغيل في القطاع الخاص.

واعتبر كمّون أنه لم يتم إلى اليوم تفعيل القانون المتعلق بتشغيل نسبة لا تقل عن 2 بالمائة من الأشخاص ذوي الإعاقة في المؤسسات العمومية والخاصة، مبيّناً أن تسوية وضعية المعلمين والأساتذة النواب لم تشمل الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية.

وأضاف أن آفاق التكوين ما تزال محدودة، وأن فرص الانتداب في المؤسسات العمومية ضعيفة، داعياً إلى إعادة تفعيل دور الاتحاد الوطني للمكفوفين، والتفكير في إحداث شعب تكوين جديدة، وتطبيق مبدأ تشغيل نسبة لا تقل عن 2 بالمائة، مع ضمان توفير مواطن شغل تراعي خصوصية الإعاقة وتكفل تكافؤ الفرص.

ورغم الجهود المبذولة من قبل الدولة والمجتمع المدني، يبقى إدماج الأشخاص ذوي الإعاقة في سوق الشغل رهين الإرادة السياسية والوعي المجتمعي الحقيقي بحقهم في العمل والمشاركة. فحين يتحول التمكين من شعار إلى ممارسة، تصبح قصص إدريس العبيدي وآلاف غيره قاعدة لا استثناء، ويغدو العمل حقا فعليا يفتح أبواب الكرامة والمواطنة الكاملة للجميع.

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق