عيد الأضحى 1446هـ : بهجةٌ لكل القلوب… نحو دمجٍ شاملٍ لأطفالنا من ذوي الاحتياجات الخاصة

سنابل الأمل/خاص

إعداد : د. أسامة احمد مدبولي *

 

مع إشراقة فجر عيد الأضحى المبارك لعام 1446 هجرية، تزدان بيوتنا وشوارعنا بأجواء البهجة والسرور. إنه عيدٌ يحمل في طياته أسمى معاني التضحية والعطاء، يدعونا إلى تعزيز الروابط الأسرية والاجتماعية ومد جسور التواصل. في خضم هذه الاحتفالات، تتجه أنظارنا نحو فئةٍ غاليةٍ من مجتمعنا، تتلألأ قلوبهم بالأمل والبراءة، وتنتظر منا لمسةً خاصةً من التقدير والتفهم لتكتمل فرحتهم: أطفالنا من ذوي الاحتياجات الخاصة، وخصوصًا أطفال متلازمة داون واضطراب طيف التوحد.

إن العيد، بما يحمله من طقوسٍ وزياراتٍ وأنشطةٍ، يشكل فرصةً فريدةً لتعزيز دمج هؤلاء الأطفال في مجتمعاتهم، وتنمية مهاراتهم الاجتماعية، وغرس شعورهم بالانتماء. فكيف يمكننا أن نجعل من هذا العيد مناسبةً شاملةً تضيء حياة كل طفل، بغض النظر عن قدراته؟

الاحتفال الشامل… مبدأٌ لا استثناء

العيد كفرصة للاندماج الاجتماعي: بالنسبة لكل طفل، العيد هو موعدٌ سنويٌّ ينتظره بفارغ الصبر؛ لارتداء الملابس الجديدة، وتلقي “العيدية”، والمشاركة في الألعاب والزيارات العائلية. هذا الشغف لا يختلف عليه أطفالنا من ذوي الاحتياجات الخاصة. بل قد تكون هذه المناسبات ذات أهمية مضاعفة لهم، فهي تُعد بمنزلة اختبار حقيقي لقدرة المجتمع على احتضانهم، وتتيح لهم فرصًا قيمة للتفاعل المباشر مع أفراد الأسرة والمجتمع على نطاق أوسع.

كسر الحواجز وتغيير المفاهيم: لتكون فرحة العيد شاملةً، يجب أن نبدأ بتغيير النظرة المجتمعية لذوي الاحتياجات الخاصة. هم ليسوا مجرد متلقين للعطف أو الشفقة، بل هم أفراد قادرون على العطاء والمشاركة والاستمتاع بالحياة بكل تفاصيلها. يتطلب ذلك وعيًا من الجميع بأن دمجهم ليس خيارًا، بل هو حقٌّ أساسيٌّ لهم وواجبٌ علينا جميعًا. إن المشاركة في الأعياد تكسر روتينهم اليومي، وتعرّضهم لمواقف اجتماعية جديدة، مما يساهم في بناء ثقتهم بأنفسهم وتنمية مهاراتهم الحياتية.

أهمية التخطيط المسبق: لضمان أن تكون تجربة العيد إيجابية ومُثريةلهؤلاء الأطفال، يُعد التخطيط المسبق أمرًا حيويًا. يشمل ذلك تهيئة الطفل نفسيًا للأنشطة المختلفة، ووضع خطة مرنة للزيارات والأنشطة، وتحديد الأوقات التي قد يحتاج فيها الطفل إلى الهدوء أو الراحة. هذا التخطيط لا يقلل من بهجة العيد، بل يضمن أن يتمكن الطفل من الاستمتاع به دون التعرض لمواقف تسبب له التوتر أو الإرهاق.

تعزيز البهجة في قلوب أطفال متلازمة داون

أطفال متلازمة داون: براءةٌ تضيء العيد: يُعرف أطفال متلازمة داون بقدرتهم الفريدة على بث البهجة في محيطهم. بابتسامتهم الصافية، ونقائهم الفطري، وحبهم للحياة، يضيفون نكهةً خاصةً لأي تجمعٍ عائلي. في العيد، تتجلى هذه البهجة بوضوح. فكيف يمكننا أن نُعزز من فرحتهم ومشاركتهم في هذه المناسبة المباركة؟

1. المشاركة الفعالة في طقوس العيد:

صلاة العيد: يمكن للأهل اصطحاب أطفال متلازمة داون إلى مصلى العيد أو المسجد، مع مراعاة اختيار مكان هادئ ومناسب لهم. هذه المشاركة تعزز لديهم الشعور بالانتماء الديني والاجتماعي.
تبادل التهاني والعيديات: تشجيع الطفل على تبادل التهاني مع الأقارب والأصدقاء، ومساعدته على استلام وتقديم العيديات. هذه التفاعلات البسيطة تُنمي لديهم المهارات الاجتماعية ومهارات التعامل اليومي.
المساعدة في توزيع الأضاحي: يمكن إشراك الأطفال في جزء من عملية توزيع لحوم الأضاحي بطريقة آمنة ومناسبة لأعمارهم وقدراتهم، مثل حمل أكياس خفيفة أو تقديمها للجيران. هذا يغرس فيهم قيم العطاء والإحسان.

2. الأنشطة الترفيهية المخصصة:

الألعاب الحسية والإبداعية: توفير ألعاب وأنشطة تُنمي مهاراتهم الحركية الدقيقة والإدراكية، مثل ألعاب البناء، أو الألغاز البسيطة، أو التلوين والرسم. يمكن تزيين بطاقات المعايدة أو صناعة مجسمات بسيطة للأضاحي.
القصص والأناشيد العيدية: قراءة قصص عن العيد أو الاستماع إلى أناشيد وأغاني العيد المبهجة. يمكن أن تكون هذه فرصة لتعليمهم بعض الكلمات أو الحركات المرتبطة بالعيد.
الأنشطة الخارجية الآمنة: اصطحابهم إلى الحدائق أو الأماكن المفتوحة المخصصة للأطفال، حيث يمكنهم اللعب بأمان والتفاعل مع أقرانهم في بيئة مبهجة ومرحة.

3. بيئة داعمة ومُشجعة:

المدح والتشجيع: يجب على الأهل والأقارب مدح وتشجيع الطفل على أي محاولة للمشاركة أو التفاعل، حتى لو كانت بسيطة. هذا يعزز ثقته بنفسه ويزيد من رغبته في الانخراط.
الصبر والتفهم: قد يحتاج أطفال متلازمة داون إلى وقت أطول لإتمام بعض المهام أو فهم بعض التعليمات. الصبر والتفهم هما مفتاح النجاح في التعامل معهم.
الاحتضان والتقبل: الأهم هو أن يشعر الطفل بالحب والقبول غير المشروط من الجميع. إن شعورهم بالانتماء يجعل العيد تجربة لا تُنسى بالنسبة لهم.

تهيئة عالم أطفال التوحد لاحتضان فرحة العيد

أطفال اضطراب طيف التوحد: تفهمٌ عميق لبيئة داعمة: يمتلك أطفال اضطراب طيف التوحد عالمهم الخاص الذي يتطلب تفهمًا عميقًا لحساسياتهم وتفضيلاتهم. قد تكون أجواء العيد الصاخبة، والتغيرات المفاجئة في الروتين، والتجمعات الكبيرة مصدرًا للتوتر بالنسبة لهم. لذا، فإن تهيئة بيئة آمنة وداعمة أمرٌ بالغ الأهمية لتمكينهم من الاستمتاع بالعيد.

1. التخطيط المرئي والتهيئة المسبقة:

القصص الاجتماعية (Social Stories): استخدام القصص الاجتماعية المصورة لشرح أحداث العيد بالتسلسل (مثل زيارة الأقارب، صلاة العيد، صوت الأضاحي، تناول الطعام). هذا يساعد الطفل على فهم ما سيحدث ويقلل من القلق الناتج عن المجهول.
الجدول البصري (Visual Schedules): إعداد جدول بصري لأنشطة العيد اليومية، مع تحديد الأوقات المخصصة للراحة أو اللعب الحر. هذا يوفر لهم إحساسًا بالتحكم والتنظيم.
التعرض التدريجي: إذا كان الطفل حساسًا للأصوات أو المشاهد الجديدة، يمكن تعريضه لها تدريجيًا قبل العيد (مثل تشغيل أصوات تكبيرات العيد بهدوء، أو مشاهدة صور لأماكن التجمع).

2. توفير بيئة حسية مُريحة:

مساحة آمنة وهادئة: تخصيص ركن هادئ ومريح في المنزل أو في مكان الزيارة، حيث يمكن للطفل أن يلجأ إليه عندما يشعر بالإرهاق أو التحفيز الزائد. يمكن أن يحتوي هذا الركن على ألعابه المفضلة أو بطانية ثقيلة.
التحكم في المؤثرات الحسية: محاولة تقليل الضوضاء العالية والأضواء المبهرة قدر الإمكان. على سبيل المثال، يمكن استخدام سماعات عازلة للضوضاء إذا كان الطفل حساسًا للأصوات العالية.
الروائح والأطعمة: مراعاة الحساسية تجاه الروائح القوية (مثل روائح البخور أو العطور) والأطعمة الجديدة. تقديم الأطعمة المألوفة والمفضلة لديهم.

3. إشراكهم بطرق تناسبهم:

أنشطة فردية أو جماعية صغيرة: التركيز على الأنشطة التي يستمتع بها الطفل بشكل فردي أو ضمن مجموعة صغيرة ومألوفة. قد يفضل البعض اللعب بألعابهم الخاصة، أو تصفح الكتب، أو مشاهدة الرسوم المتحركة الهادئة.
التواصل غير اللفظي: فهم لغة جسد الطفل وإشاراته. إذا بدا عليه التوتر أو الانزعاج، يجب توفير الدعم الفوري أو نقله إلى مكان هادئ.
المرونة وتقبل الاختلاف: تقبل أن طريقة احتفال طفل التوحد بالعيد قد تختلف عن الآخرين. الأهم هو أن يشعر بالراحة والأمان والسعادة، حتى لو كان ذلك يعني مشاركة محدودة في بعض الأنشطة.

4. دور الأقارب والأصدقاء:

التوعية المسبقة: يمكن للأهل إبلاغ الأقارب والأصدقاء ببعض احتياجات الطفل الخاصة وكيفية التفاعل معه بطريقة إيجابية.
التحية الهادئة: تشجيع الأقارب على تقديم التحية للطفل بطريقة هادئة وغير مفاجئة، وتجنب اللمس المفرط إذا كان الطفل لا يفضله.

دور المجتمع والمؤسسات: عيدٌ بلا حواجز… مسؤولية مشتركة

مسؤولية مجتمعية شاملة: لا تقتصر مسؤولية احتفال أطفالنا من ذوي الاحتياجات الخاصة بالعيد على الأسر وحدها. بل هي مسؤولية مجتمعية شاملة تتطلب تكاتف الجهود من قبل الأفراد، والمؤسسات الحكومية، والجمعيات الخيرية، والمراكز المتخصصة. الهدف هو بناء بيئة داعمة تضمن لهم حقهم في الفرح والاندماج.

1. دور المؤسسات الحكومية والجهات المعنية:

فعاليات خاصة ومراعية: تنظيم فعاليات عيدية مخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة في الحدائق العامة أو المراكز الشبابية، مع مراعاة توفير مساحات هادئة، وألعاب حسية، وتفاعل موجه.
توفير الموارد والدعم: تخصيص ميزانيات لدعم الأسر التي لديها أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتقديم استشارات مجانية حول كيفية التعامل مع التحديات الاجتماعية والنفسية.
التشريعات والسياسات الداعمة: سن وتطبيق تشريعات تضمن سهولة وصول ذوي الاحتياجات الخاصة إلى الأماكن العامة والخدمات، بما في ذلك أماكن الاحتفالات والمساجد.

2. دور الجمعيات الخيرية والمراكز المتخصصة:

برامج احتفالية متكاملة: تنظيم برامج احتفالية خاصة بالعيد تتضمن ورش عمل فنية، وأنشطة ترفيهية، وعروضًا ترفيهية تتناسب مع مختلف القدرات.
تقديم الدعم النفسي والاجتماعي: توفير جلسات دعم للأسر قبل وأثناء وبعد العيد لمساعدتهم على إدارة الضغوط، وتقديم النصائح حول كيفية دمج أطفالهم.
التدريب والتوعية: تنظيم ورش عمل تدريبية للمتطوعين وأفراد المجتمع حول كيفية التعامل بفعالية مع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، وكيفية خلق بيئة شاملة لهم.

3. دور الإعلام والمجتمع المدني:

حملات توعية مكثفة: إطلاق حملات إعلامية خلال فترة العيد لتسليط الضوء على أهمية دمج ذوي الاحتياجات الخاصة، وعرض قصص نجاح ملهمة، ونشر معلومات حول كيفية التعامل معهم.
تشجيع التطوع: دعوة الشباب والمتطوعين للمشاركة في تنظيم الفعاليات الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، وتقديم الدعم للأسر.
نشر ثقافة التقبل: العمل على غرس ثقافة التقبل والاحترام للتنوع في المجتمع، بدءًا من المناهج التعليمية وحتى البرامج التلفزيونية والفعاليات العامة.

عيدٌ يشرقُ أملًا… في كل قلب

إن عيد الأضحى المبارك، بكل ما يحمله من قيم العطاء والتكافل، هو دعوةٌ لنا جميعًا لنمد أيدينا بالحب والاهتمام لأطفالنا من ذوي الاحتياجات الخاصة. إنهم جزءٌ لا يتجزأ من نسيج مجتمعنا، وقدرتهم على الفرح والاستمتاع بالحياة هي حقٌّ أصيلٌ لهم. عندما نُشاركهم فرحة العيد، ونُهيئ لهم البيئة المناسبة، ونُعزز من اندماجهم، فإننا لا نمنحهم البهجة فحسب، بل نبني مجتمعًا أكثر إنسانية وتراحمًا وتفهمًا.

فلنجعل من عيد الأضحى 1446 هـ مناسبةً لإشراق البهجة في كل قلب، ولنتعهد بأن تكون احتفالاتنا شاملةً للجميع، بلا حواجز أو استثناءات، لتتفتح أزهار الفرح في كل نفسٍ، وليشرق الأمل في عيون كل طفل.

عيد أضحى مبارك وكل عام وأنتم بخير.

 

* خبير واستشاري في التربية الخاصة ومدير مركز معا للتربية الخاصة

دمجٍ شاملٍ لأطفالناذوي الاحتياجات الخاصةعيد الأضحى 1446هـ
Comments (0)
Add Comment